كَيْفَ نُقَرّب عِلْمَ عِلَلِ الحَدِيث لِطُلاَّبِ الحَدِيث وَنُحَبِّبه لَهُمْ؟
لشيخنا د. علي بن عبد الله الصياح -حفظه الله تعالى-
الأول: التنبه لقاعدةٍ جميلةٍ نصّ عليها إمام العلل في زمانه عَلِيّ بن الْمَدِينِيّ، وهذه القاعدة يغفل عنها كثيرٌ من الناس.
قال يعقوب بن شيبة: قَالَ عَلِيّ بن الْمَدِينِيّ: لا يقاس الرجل إلا بأقرانه وأهل زمانه؛ فلقد قُلْتُ مَرَّةً: سَعِيد أَعْلَم من حَمَّاد بن زَيْد، فبلغ ذَلِكَ يَحْيَى بن سَعِيد، فشق ذَلِكَ عليه؛ لئلا يقاس الرجل بمن هو أرفع منه لا يَقُول: سُفْيَانُ أَعْلَم من الشعبي، وأيُّ شيء كَانَ عند الشعبي مما عند سُفْيَان؟
وقيل لعلي بن الْمَدِينِيّ: إن إنساناً قَالَ: إنَّ مالكاً أفقه من الْزُّهْرِيّ، فَقَالَ عَلِيّ: أنا لا أقيس مالكاً إِلَى الْزُّهْرِيّ، ولا أقيس الْزُّهْرِيّ إِلَى سَعِيد بن الْمُسَيَّب، كل قوم وزمانهم.
لذا ينبغي التفطن إلى هذه القاعدة وعدم المفاضلة بين مختلفي الأزمنة، وكذلك ملاحظة - وهذا الشاهد للمقال - أنه من الصعوبة - وربما من المستحيل - أن يبرز أحدٌ في علل الحديث كما برز أولئك.
الثاني: وفي زماننا هذا - والضعف العلمي والعملي سمةٌ بارزة فيه - أرى أنّ من عَرَف مصطلحات علماء الحديث - بالجملة - ومناهج أئمة العلل وطرائقهم في هذا الفن، وأدمن النظر في كتب العلل مع جودة الفهم، ودِقَّة في النظر، وحفظ الرجال الذين تدور عليهم الأسانيد، ومراتب الرواة وطبقاتهم، وطرق وقرائن الترجيح، والجمع فهو من العارفين بعلل الحديث.
ومما قلته في المقال الآنف الذكر:
كيف يعالج القصور في هذا العلم-علم العلل-؟
من طرق علاج القصور في هذا الفن ـ في رأيي ـ طريقان:
أ- كثرة القراءة في كتب العلل النظرية والتطبيقية - كعلل الترمذي الكبير، وعلل ابن أبي حاتم، وعلل الدارقطني وكتابه: التتبع، وعلل ابن عمّار الشهيد، ومبحث «الحديث المعلول» في كتب علوم الحديث - فإنْ غلب على قراءتها فلا يغلب على كتابين:
الأوَّل: التمييز للإمام مسلم بن الحجاج.
والثاني: كتاب «شرح علل الترمذي» لابن رجب.
وأرى أنَّ الكتابين ـ من أولهما إلى آخرهما ـ من أحسن ما يقرر على طلاب الحديث لفهم العلل ومعرفة طريقة النقاد فيها.
ب- تتبّع أقوال كبار نقاد الحديث على الحديث المراد بحثه، والاستفادة من كل كلمة يقولونها عن الحديث؛ لأنَّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ في الغالب على الاختصار، والإجمال، والإشارة، فيقولون مثلاً: «الصواب رواية فلان»، أو «وَهِمَ فلان» أو «حديث فلان يشبه حديث فلان» أو «دَخَلَ حديثٌ في حديث» ولا يذكرون الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول؛ لأنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية والعلل، فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها - ومِنْ ثمّ دراسة أسباب هذا الحُكْم من الناقد، ومدى موافقة بقية النقاد له، ومع كثرة الممارسة لكلام النقاد تتكون عند الباحث مَلَكة تؤدي - بتوفيق من الله وإعانة - إلى موافقتهم قبل أنْ يطَّلعَ على كلامهم المعين في الحديث المراد بحثه، وتفيده في دراسة الأحاديث التي لم يتكلموا عليها.