بعد أن حملت القنوات التلفزية للمتلقي سيولاً من الإنتاج الإعلامي المرئي من برامج حوارية وإعلانات وموجة عارمة من الإنتاج الدرامي الذي تم الإعلان عنه من قبل حلول شهر رمضان بإلحاح وتكثيف بغرض جذب المتلقي لمتابعة هذا «الفيضان الدرامي» ومنذ ذلك الوقت لم تهدأ الأقلام عن النقد الموجه للدراما الرمضانية التي لم يستطع النقاد أو المشاهدون متابعتها بأكملها، فقد أبي القائمون على الفضائيات أن يتركوا المتلقي يجدد طاقاته الإيمانية ويسد احتياجاته الروحية في هذا الشهر المبارك، ذلك ما تؤكد عليه الدكتورة علياء إبراهيم محمود، خبيرة الاستشارات الأسرية والتنمية البشرية.
تضيف في السياق نفسه: بداية نحن أمام حقيقة واقعة لا نستطيع إلا التعامل معها، وهي أن الإعلام بأنواعه المختلفة مرئيا ومسموعا أو مقروءا أصبح شريكا أساسيا في حياتنا وتوجهاتنا وأفكارنا والقيم التي تحكم سلوكنا، باختصار الإعلام وخاصة المرئي منه أصبح له عظيم التأثير علينا صغارا كنا أم كبار، وهذا يستدعي منا التعامل مع ما يقدمه، بما يجعل لهذا التأثير إيجابياته ويساعدنا على تجنب سلبياته أو الحد منها قدر المستطاع، خاصة أنه مع التطور المذهل لوسائل الاتصال والبث الفضائي الذي أفرز العديد والعديد من القنوات الفضائية التي أتاحت للمتلقي أن يسترخي على كرسيه وبضغطة زر يتجول بين كل ما هو بخس وثمين من الأعمال في عصر يمكن أن نطلق عليه بحق «عصر سيطرة الصورة المرئية»، فالتلفاز هو وسيلة من أخطر وسائل الاتصال والترفيه ووسيلة لتشكيل ثقافة المتلقي وأفكاره وقيمه، وفي ظل خروج المرأة للعمل وانشغال الآباء أصبح وسيلة لشغل وقت الفراغ حتى ظهر ما يسمى «بإدمان مشاهدة التلفاز»، ومن أهم ما يقدمه هذا الجهاز السحري، الإنتاج الدرامي الذي جذب المتلقي بكل فئاته العمرية والشرائح الاجتماعية المختلفة، خاصة المراهقين والشباب والنساء، هذه الشرائح التي أصبحت في السنوات الأخيرة تتخذ من شريحة الفنانين قدوات ونماذج يحتذون بها، وبالتالي هم في أشد الحرص على متابعتهم من خلال أعمالهم وأخبارهم، ولذلك فالدراما التليفزيونية بكل أنواعها بل وجنسياتها كانت ومازالت من أكثر المواد الإعلامية جاذبية لدى المتلقي، خاصة في هذا العصر الذي ساهم في سرعة انتشارها انطلاق العديد من القنوات الفضائية المتخصصة في الإلحاح على المشاهد بتكرار هذه الأعمال الدرامية طوال ساعات اليوم، بالإضافة إلي مواقع الإنترنت التي يمكن من خلالها مشاهدة هذه الأعمال، وما استجد تلك المسابقات التي تحمل الجوائز المالية والعينية عن أحداث هذه الأعمال الدرامية، والبلوتوث الذي بدوره ساهم في سرعة انتشار المقاطع الدرامية.
تضيف علياء: الرابح في النهاية هم صناع هذه المسلسلات ومروجو الإعلانات، وحتى لا نظلم هذا النوع من الفنون الذي سيطر على الساحة الإعلامية، لابد أن ندرك أن ما يتم تقديمه من أعمال درامية يمكن أن يكون له تأثير إيجابي أو تأثير سلبي على المتلقي، ويمكنه أن يساهم في تطويره لأدائه في كافة مجالات حياته، فيمكن للعمل الدرامي أن يزيد من ثقافة المتلقي في مجال معين مثل مسلسل «يوميات ونيس»، الذي طرح العديد من المشاكل وطرح العديد من القيم التربوية عبر أجزائه الخمسة، من خلال أسرة تواجه المتغيرات الاجتماعية التي أثرت على دور الأب والأم في تربية أبنائهم ثم أحفادهم، وهو أحد الأعمال الدرامية التي كانت أقوى في تأثيرها من برامج تربوية حوارية تنظيرية، ربما تصيب المتلقي بالملل أو ربما لا تحظى بالمشاهدة، ويمكن أن تساهم الأعمال الدرامية في ترسيخ قيم إيجابية تنعكس على سلوكيات المتلقي وتحثه وتحفزه للتغيير، مع التمسك بالقيم والعادات والتقاليد الإيجابية لمجتمعاتنا العربية مثل المسلسل السوري «باب الحارة» ويمكن لعمل درامي تاريخي أن يساهم في ترسيخ قيمة الانتماء والهوية في ظل انجذاب أبناء هذا الجيل لكل ما هو غربي، إن المتلقي للعمل الدرامي ليس بالضرورة أن يكون متلقيا سلبيا لا يتأثر بما يشاهده في العمل الدرامي، وليس بالضرورة أن يقدم له صناع هذا الفن النماذج السلبية والقيم التي لابد وأن تنعكس على أفكاره وبالتالي سلوكياته، ولا أحد يستطيع أن ينكر التأثير اللامحدود للدراما التلفزيونية على المتلقي، فعلى سبيل المثال انتشار اللهجة المصرية في العالم العربي كان من خلال الدراما المصرية، وانتعاش السياحة التركية جاء بعد طوفان المسلسلات التركية بحلقاتها المئوية، وتأثر المراهقين والشباب والنساء بملابس وتسريحات الشعر «اللوك» لأبطال الأعمال الدرامية، ومن خلال الأبحاث المتخصصة في هذا المجال اتضح أن بعض ممارسات الشباب للتدخين وتعاطيهم المخدرات كان بتأثير مباشر أو غير مباشر من الأعمال الدرامية، بل تأثير الدراما كان مخيفا في بعض الظواهر الأسرية مثل سهولة اتخاذ قرار الطلاق لدى المتزوجين والعنف الأسري وغيرها من مظاهر سلوكية وقيم ساهمت الدراما في انتشارها وترسيخها، والأمثلة لتأثير الدراما على المتلقي كثيرة ولا تنتهي في ظل الضغوط اليومية التي تجعل الفرد في نهاية اليوم يستلقي على سريره أمام الشاشة ويتلقى بسلبية ما يطرحه عليه صناع الدراما؛ لأن المتلقي لم يكتسب مهارات التعامل مع ما يطرحه عليه الإعلام بوجه عام وبخاصة التلفاز الضيف الدائم في كل بيت.
سوق الإعلام
تتحدث علياء عن الدراما وزخمها في في شهر رمضان، وتقول: في ظل اختلال موازين ومعايير التعامل مع هذا الشهر الفضيل الذي تحول إلى سوق رائجة للدراما وملحقاتها من إعلانات ومسابقات وبرامج نقدية وندوات لأبطال وصناع هذه الأعمال، لابد وأن تزيد نسبة المشاهدة ومساحة المتابعة للدراما الرمضانية التي سوف تظل طوال العام تلح على المتلقي بما تحمله من أفكار وقيم وسلوكيات إيجابية كانت أم سلبية، ولكل هذا تأثير للدراما على الفرد والأسرة، وبالتالي المجتمع فإن صناع هذا الفن عليهم إدراك مسؤوليتهم في تسخير الدراما في خدمة المجتمع، وهذا لن يحدث بالتركيز الشديد علي النماذج والقيم والسلوكيات السلبية التي يتم توظيفها في العمل الدرامي من خلال إطار جذاب لا ينفر المتلقي منها، بل ربما يتعاطف معها، أو على سبيل المثال تشويه صورة الإسلام بشكل مباشر أو غير مباشر بحجة نقل الواقع من خلال العمل الدرامي مثل ما حدث في عدد من المسلسلات هذا العام، حيث ركزت على إظهار الصورة المتطرفة للمسلم الملتزم باعثة رسالة تخيف المتلقي من الالتزام، أو إظهار شخصية المسلم الملتزم الذي ليس همه إلا الزواج من النساء، أو الوصول إلي أهدافه بكل وسيلة بما فيها الرشوة مثلا، بالرغم أنه ليس المقصود أن المسلم الملتزم ملاك، ولكن الحرص على التركيز علي تقديم هذه الصورة للمسلم الملتزم سوف تزيد من ترسيخ هذه الصورة لدى المتلقي. وتضيف علياء إبراهيم: هناك تساؤل لابد منه: ما جدوى أن تظهر بعض المسلسلات هذا العام التشكيك وعدم مصداقية الدعاة الذين يظهرون عبر الفضائيات؟ وتجيب: لأن ذلك يسبب تشويشا لدى المتلقي في ظل واقع نلمسه هو زيادة نسبة الدعاة والبرامج المخصصة لهم عبر الفضائيات، أو إظهار فتاة محجبة في علاقة غير شرعية مع شاب في ظل واقع نلمسه، وهو هجمة على انتشار الحجاب في الآونة الأخيرة حتى بين الفنانات، وحدث ولا حرج عما احتوت عليه بعض المسلسلات بحجة الإبداع الفني من مشاهد رقص وعري وخلاعة وإغراء، وغيره مما يعف القلم عن ذكره، وهي مشاهد لا تساهم فقط في خدش حياء المشاهد، وقدسية الشهر الكريم، ولكن تساهم في اكتساب المتلقي خاصة من الأطفال والمراهقين سلوكيات وممارسات سلبية، خاصة أنه يتلقى هذه المشاهد بموافقة ضمنية من الأسرة التي تجلس وتتابع وتنتظر بفارغ الصبر ميعاد هذه المسلسلات، والمتابع للأعمال الدرامية يدرك أنها لا شك تساهم في الترويج لـ «عمليات التجميل « من خلال تأثر النساء باختلاف أعمارهن بصورة النجمات اللاتي تولين بطولات هذه الأعمال الدرامية، مما يساعد على انتشار ثقافة المظهر التي تطغى على الجوهر ويجعل الهم الأكبر لدى شريحة كبيرة من الفتيات والنساء، تقليد النجمات من خلال إجراء عمليات التجميل التي جعلت ملامح النساء متشابهة، وهذه الثقافة في حد ذاتها تحد من تطوير المرأة لمهاراتها وتظل تلهث وراء عمليات النفخ والشد، وهذا يعرقل عملية تطوير وتنمية المرأة لجوانب حياتها الأخرى.
زلازل درامية
تضيف إبراهيم: من تبعات الزلازل الدرامية التي أصابتنا في هذا العام أغاني شارات المسلسلات التي تضمنت شتائم، وهذا بعد أن تم تقديم بعض الشتائم في الأعوام القليلة الماضية ضمن أغاني المسلسلات، وعندما اطمأن صناع هذه الأعمال إلى قبول المتلقي لهذا النوع من «شتائم الأغاني» وأصبح محصنا بمصل اللامبالاة زادوا الجرعة هذا العام، حتى أن إحدى هذه الأغاني كانت تحمل ألفاظا غير لائقة ضد الأم في عمل جيد يناقش قضايا أسرية وتربوية مهمة، والمشكلة أن هذه الأغاني سوف يتم تحميلها على الهواتف النقالة، مما يساهم في سرعة انتشارها بين الشباب والمراهقين.
وتضيف في السياق نفسه: أما ما استوقفني هذا العام فإن هناك عددا من المسلسلات اهتمت بطرح قضايا أسرية وتربوية تدور داخل المدرسة وفي نطاق الأسرة، وسواء أتفق المتخصصون أو المشاهد العادي مع أساليب الطرح والمعالجة أو اختلفوا.
دور التسلية في التطوير والتنمية
تقول علياء عن دور هذه البرامج في التطوير وانعكاسها على شخصية المتلقي: إن اختيار مثل هذه الموضوعات تمثل فرصة لاجتماع الأسرة حول هذه الأعمال لمناقشة أحداثها من وجهة نظر كل فرد من أفراد الأسرة، وهذا في حد ذاته أمر إيجابي يمكن أن يتطور في الأعوام المقبلة، وأيضا ما يمكن أن يجعل الدراما تساهم في البناء وتخرج من مجرد الترفيه والتسلية إلى التطوير والتنمية، وهذا الحوار بين أفراد الأسرة حول العمل الدرامي يساهم في إكساب الأبناء مهارات التعامل مع المادة الدرامية التي يتلقاها وكيف «يفلترها» ويصنفها بإيجابياتها وسلبياتها وما يتفق مع قيمه وعاداته وتقاليده، باختصار يتحول المتلقي إلى متلقٍ إيجابي لديه القدرة على التفكير والمناقشة والتحليل، وهذا يتفق مع ما طالب به أحد المتخصصين بضرورة وجود مادة علمية في المدارس لإكساب الأطفال والمراهقين مهارات التعامل مع ما يقدمه لهم الإعلام في ظل سيطرة الإعلام على العملية التربوية وتراجع دور الأسرة، إننا نسعى إلى إيجاد «ريموت كنترول» داخل عقل المتلقي قبل أن يكون بين يديه.