مفهوم الثقافة بين اللغة والاصطلاح
الثقافة والمثقف كلمتان غائمتا(غائما) المفهوم، غامضتا الدلالة، واسعتا
النطاق، يصعب أن يحويهما تعريف أو يحدهما مصطلح، وذلك لتعذر
الموقف على معناهما الدقيق، ولقد أثارتا كثيراً من التساؤلات، وتعددت
الإجابات وتباينت حول مفهوميهما(مفهومهما). (حتى انه يمكن إحصاء
مئات التعريفات (التعاريف) لمصطلح الثقافة)(1).
سألت صاحبي وأنا أحدثه عن الثقافة،: أهي المعرفة؟ قال: لا. أردفت:
أهي العلم؟ قال: لا. قلت: أهي الحضارة أم هي المدنية أم العقيدة أم
التاريخ أم العادات والتقاليد والأخلاق أم الأفكار والفنون والآداب.. أم،
أم.. وكان جوابه دائماً بالنفي. قلت ما هي الثقافة إذن؟ قال: هذه
المفردات بعض مكوناتها.
تعلمون أن كلمة (ثقافة) لم ترد إطلاقاً في القرآن الكريم ولا في السنة
النبوية المطهرة، كما لم ترد في نصوص العرب وأشعارهم لا في
جاهلية ولا في إسلام وقد وصفها المعجم الوسيط بأنها كلمة محدثة
في اللغة العربية، مما يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن لها عند العرب
والمسلمين ذلك الوزن الذي يعطى لها اليوم، ومن هنا فان العرب
والمسلمين حتى ما قبل قرن من الزمان لم يكونوا يولونها أي حظ من
الاهتمام، بينما هي اليوم كل شيء في حياة البشرية بل هي مرآتها.
إن جذر كلمة ثقافة هو: ث ق ف، ولهذا الجذر معنيان رئيسيان متباينان
في اللغة العربية:
الأول: ثَقَفَ: قال الفيروز أبادي: ثَقَفه: أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو
أدركه.
وأُثقِفْتُهُ: قُيِّضَ لي.
وبهذا المعنى جاء قوله تعالى:
] فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم[
والثاني: ثَقِفَ يثقَف، وثَقُفَ يثقُف، ثَقْفاً وثَقَفاً وثقافة: صار حاذقاً خفيفاً
فطناً(2).
ومنه:
ثَقِفَ الكلام: حذقه وفهمه بسرعة
وثَقَّفَ الرمحَ: قوّمه وسوّاه
وثقَّف الولد: هذّبه وعلّمه.
وثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه في الحذق(3).
ويبين ابن منظور في لسان العرب أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، ويربط
بين التثقيف والحذق وسرعة التعليم. ويعرف المعجم الوسيط الثقافة
بأنها (العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق).
هذا في اللغة العربية، أما في اللغة الإنكليزية، فكلمة culture التي
تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب والحراثة وقد يعطونها
أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين،
ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و
cultural ومعناها ثقافي، مستولد (على ما أضن يقصد مستورد)(4).
ونلاحظ أن معناها في الإنكليزية لا يخرج عن معناها في العربية غير
أنه يضيف مصداقاً آخر من مصاديقها (مصادقها) وهو حراثة الأرض،
ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، لكنه بشكل ما يربط مفهوم الثقافة
بالدين والعبادة، فهما من جذر واحد، فالدين كان المنبع الأول إن لم
نقل الوحيد للثقافة قديماً. وأظن أنه حتى الآن لا يزال المنبع الأساسي
والمرتكز الأهم للثقافة.
كانت الثقافة تعني الدين أو الحكمة أو الفلسفة وكان المثقف هو النبي
أو الحكيم أو الفيلسوف أو الأديب. وكان السلاطين والملوك يختارون
لأبنائهم مؤدبين يعلمونهم مختلف الآداب والفنون والعلوم، وكل ما
يحتاجونه ليصبحوا مؤهلين لادارة دفة الحكم.
2ـ تعريف الثقافة
على ضوء ما تقدم يتبين لنا أن مصطلح (الثقافة) هو مصطلح غربي،
ولذلك لابد أن نتفحص تعاريف الغربيين للثقافة.
تعريف تايلور: (الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على
المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات
والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع) (5).
يعلق الدكتور معن زيادة على هذا التعريف بقوله:
(على ضوء الدراسات المستجدة أصبح بمقدورنا أن نأخذ على تعريف
تايلور عموميته وطابعه الوصفي، وإهماله حركية وديناميكية الظاهرة
الثقافية، إضافة إلى إهماله العلاقة بين الثقافة والمجتمع البشري
الحامل لتلك الثقافة من جهة والبيئة أو المحيط الخاص بتلك الثقافة من
جهة أخرى) (6).
(لي) - على ضوء ما جاء آنفاً: أن كلمة المثقف والثقافة حديثة العهد،
أي لم تكن متداولة، وهي كلمة غريبة على اللغة العربية، ومعانيها
تختلف حسب مضمونها. والمثقف هو ليس المتخصص، وهو ليس
الخبير، ويمكن القول بأن هناك مثقف شامل ومتكامل لحد ما، ومثقف
متعدد المواهب، ومثقف منحصر في بعض العلوم. ومنهم من يعرف
المثقف على أساس العارف بجميع العلوم...أو على الأقل بشيء من
مجمل ما هو متداول ومعروف...أو يراد معرفته. لكنني سوف أدلوا
بتصوري فيما بعد بدقة أكثر. وأحاول إيجاد تفسير لمسألة هل يمكن
إطلاق مصطلح المثقف على كل من حمل نوعاً أو بضع أنواع من
العلوم والمعرفة. أم أن المصطلح وسام لا يرفعه إلا أشخاص قلائل
لديهم إمكانيات العبقري والفيلسوف المجتهد في علوم زمانه، وله
معرفة بتاريخ يخص شعبه. وهل هناك شخص لديه الإمكانية لفهم
واستيعاب جميع العلوم ودرك مفاصلها وله نظرته الخاصة في كل
صغيرة وكبيرة...هل نريد تخويف الساعين للثقافة والإدراك أن يتجنوا
الخوض في غمار العلوم لأنهم لم ينالوا وسام المثقف. أم أن الحلم هو
دفع الأكثرية للتطلع وزيادة المعلومات لتعم الفائدة... هذه الأسلة
وأخريات يدور في خلد القارئ لهذه الدراسة حين القراءة ... وعليه
إيجاد الأجوبة التي تلائمه...لأننا مهما حاولنا التوصل لأي حقيقة فهي
بالتالي حقيقة تخص الشخص نفسه، وقد لا تكون حقيقة الآخرين،
فليس المراد إجبار الآخرين لقبول هذه الحقيقة، أو تلك. فالقناعة الذاتية
أهم من القناعة الجماعية. فما عليك أن تكون بجانب هذا أو ذاك فتراه
الصواب، بل الصواب هو ما توصلت إليه قناعتك قلباً وعقلاً ...وتتحكم
بنتائجه لضميرك. نعم الاستعانة بالآخرين وبالكتب وبالعارفين ممن تثق
باستقلاليتهم في الطرح أمرٌ في غاية الأهمية، لكن الأهم من ذلك هو
أن لا تكون أسير أفكارهم وآرائهم ومقترحاتهم، فتبقى مستهلك
للأفكار غير منتج. وإليك تعاريف أخرى.
تعريف كوينسي رايت: الثقافة هي النمو التراكمي للتقنيات
والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب، يعيش في حالة الاتصال
المستمر بين أفراده، وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ
عن طريق الآباء وعبر العمليات التربوية)(7).
ويعلق الدكتور زيادة على هذا التعريف بقوله: (إن تعريف رايت لم
يتمكن من التخلص كلية من الطابع الوصفي الذي أخذ على تعريف
تايلور، كما أنه لا يتضمن الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في توجيه
سلوك الإنسان، وبالتالي لا يتضمن دور الثقافة في صنع حاضر الإنسان
ومستقبله)(8).
تعريف مالينوفسكي: (الثقافة هي جهاز فعال ينتقل بالإنسان إلى
وضع أفضل، وضع يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه
الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته
الأساسية)(9).
تعريف غوستان فون غرونيوم: وهناك تعريفات أخرى مثل (أن
الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعة متماسكة من الإجابات
على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجري
حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية
التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً
كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة) ومن هذا القبيل
تعريف غوستاف فون غرونيوم في مطلع كتابه عن هوية الإسلام
الثقافية الصادر في باريس عام 1973 حيث يقول عن الثقافة انها (نظام
مغلق من الأسئلة والأجوبة، المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني)(10).
وهذه التعريفات(التعاريف) كلها تبرز بشكل واضح أهمية العقيدة ودور
الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان.
هذا لدى الغربيين فماذا لدى العرب؟
يقول الدكتور عبد الكريم عثمان: (الثقافة في اللغة العربية تعني
الحذق والفهم، والتثقيف بمعنى التشذيب والتهذيب والتقويم والحذق
والفطانة (الفطنة)، وقد عرفت المعاجم الحديثة للغة العربية هذه
الكلمة بأنها العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق)(11).
وسواء كانت الثقافة هي العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها
الحذق أو هي الحذق وفهم العلوم والمعارف والفنون... الخ.
هل يعتبر هذا تعريفاً كافياً للثقافة في عصرنا؟!
مالك بن نبي يعرف الثقافة في كتابه (مشكلة الثقافة) فيقول إنها
(مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ
ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في
الوسط الذي ولد فيه)(12).
هل الثقافة هي:
(العلوم والمعارف والفنون و... التي يطلب فيها الحذق)
أم هي (الحذق وفهم العلوم والمعارف والفنون و...)
أم هي (المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن
والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها
الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع)
أم هي (النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من
الشعوب يعيش في حالة الاتصال المستمر بين أفراده، وينتقل هذا
النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ عن طريق الآباء وعبر العمليات
التربوية)
أم هي (جهاز فعلا ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل)
أم هي (الجهد المبذول لتقديم مجموعة متماسكة من الإجابات على
المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية)
أم هي (نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك
الإنساني)
أم هي (المنجزات الفكرية المعنوية التي يبتكرها الإنسان في تنظيم
حياته مع الآخرين).
إذا بسطنا الموضوع قليلاً، وتجنبنا محاولة تعريف الثقافة تعريفاً جامعاً
مانعاً كما يقال، واكتفينا بالحديث عن الثقافة كمفهوم حديث أو
كمصطلح حديث، فلربما(فربما) أمكننا القول أن: (الثقافة هي المخزون
الحي في الذاكرة كمركب كلي ونمو تراكمي مكون من محصلة العلوم
والمعارف والأفكار والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقوانين
والأعراف والتقاليد والمدركات الذهنية والحسية والموروثات
(المورثات)التاريخية واللغوية والبيئية التي تصوغ فكر الإنسان وتمنحه
الصفات الخلفية والقيم الاجتماعية التي تصوغ سلوكه العملي في
الحياة).
هذا المخزون الحي قد يتمثل لدى الشعوب على شكل عقيدة حية
فعالة محركة لما يصدر عن أفراد الشعب من قول أو عمل، وما ينجزه
على الصعيدين الفكري والعملي الفردي والاجتماعي على السواء من
مهام ووظائف.
ترى هل تجاوزنا بهذا المفهوم الذي قدمناه للثقافة كل التعريفات
(التعاريف) التي تتراوح ـ كما يقول الدكتور معن زيادة ـ (بين القول أن
الثقافة هي مجرد اكتساب درجة من العلم والمعرفة أو انها تعني
الإبداع والابتكار الفني والجمالي وبين القول أنها السلوك أو نمط التعبير
الخاص بمجتمع من المجتمعات أو انها تقتصر على الضروب الرفيعة من
التفكير النظري والتجريد، مروراً بالعشرات من وجهات النظر والآراء
التي تفهم الثقافة من زوايا خاصة ووفق أغراض محددة)؟ (13).
وينبغي أن لا يغيب عن البال أن مفهوم الثقافة يختلف باختلاف الزمان
والمكان، ولعله لا يطول بنا الزمان لنرى الثقافة قد خرجت من أسر
القومية والطائفية والإقليمية والعرقية لتدخل أفق العالمية وتنشر
ظلالها الصحية على البشرية في جميع أرجاء المعمورة.
(لي) الملاحظ مما سبق أنه ليس هناك إجماع أو توافق للتعريف، بل
يمكن القول هناك تعريف شمولي يحاول إعطاء وصف متكامل
ونموذجي واسع، وهناك تعريف موضوعي يختصر للسهولة والتقريب.
وقد يكون لكل معرف غاية، أو لكون الحالة التي عاشها المعرف تتطلب
منه ذلك النوع من التعريف... كيف لك أن تعرف أنت، بعدما أطلعت
على كل تلك أوجه الخلاف واللقاء. وقد يكون التعريف الأكثر قبولاً هو أن
الثقافة والمثقف متلازمان ... فبدون المثقف لا ثقافة تظهر...وبدون
الثقافة لا وجود للمثقف. وما هي بالتالي إلا تعبير عن مجمل الحوادث
والأفكار المدونة ودراستها لاستخلاص الملائم والمناسب للحالة
السائدة، أو من أجل إعطاء فكرة لحل آني...وتوقع مستقبلي. فهي
في النتيجة القصوى إنتاج فكر جديد لحل أزمة حالية أو مستقبلية
متوقعة.
3ـ كيف تتكون الثقافة
أ. الثقافة الفردية
يخلق الطفل مزوداً بحوافز ودوافع وقدرات وإمكانيات يتميز ببعضها عن
جميع المخلوقات الأخرى غير البشرية، تدفعه لأنماط من السلوك
الفطري الغريزي، وتتيح له ابتداء تلمس حاجاته الجسدية، في ظل
الشعور بالأمن في حضن الأم التي تحوطه بالمحبة وتغمره بالحنان
وتشمله بالرعاية، فلا يلبث أن يحاول تركيب ومطابقة ما يرى وما
يسمع، وأن يحاول التعبير عن كل ذلك بالمحاكاة والتقليد.
إن المدركات الذهنية والحسية في السنوات الخمس الأولى النابعة من
الحوافز والدوافع والقدرات المخلوقة مع الطفل يصح لنا أن نسميها
(ثقافة فطرية) وللطفل ثقافة مكتسبة وهي ما يتراكم حول الثقافة
الفطرية وفوقها بعد سنواته الخمس الأولى، وتتكون هذه الثقافة
المكتسبة لدى الفرد عن طريقين.
- التعلم الذاتي واكتساب القدرات والمهارات بالتقليد والمحاكاة
وبمعايشة اللعب وبالحوادث والاستقراءات (الاستقراء) المتلاحقة عن
قصد وعن غير قصد.
- وبالتعليم من الغير، وفق أو على غير خطة مرسومة ومنهج مدروس.
وبين هاتين الثقافتين ـ الفطرية والمكتسبة ـ جسر موصل أو حاجز غير
واضح تماماً، فالجزء البسيط من المدركات والمكتسبات دون سن
التمييز أقرب إلى الثقافة الفطرية أو لنقل هو انبثاق عنها وختام لها.
والجزء المركب والمعقد من هذه المدركات والمكتسبات أقرب إلى
الثقافة المكتسبة أو لنقل هو ابتداء فيضها أو هو منبعها وأساسها.
ونظراً لدور الغير في هذه الفترة من حياة الإنسان، والأثر المهم الذي
يخلفه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم [كل مولود يولد على
الفطرة وأبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه] رواه أبو يعلى والطبراني
والبيهقي.
ب. الثقافة الاجتماعية
هناك (الثقافة البدائية التلقائية وتوجد حيث يوجد المجتمع، وهي تسود
كافة المجتمعات الإنسانية ولا يخلو منها مجتمع، وتتجلى في عموم
الحالة السائدة في المجتمع) (14).
وهناك (ثقافة موجهة قد تم التخطيط لها على أسس متينة وقواعد
ثابتة) (15).
4ـ العلاقة بين الثقافة والحضارة
صحيح أن الثقافة ليست هي الحضارة، ولكنها العنصر الهام في عملية
البناء الحضاري، فبمقدار شمولية الثقافة وتوازنها واستقرارها وصحة
متبنياتها يرتفع عمود الحضارة، وتترسخ أركانها في المجتمع.
وليس لقوة مهما بلغت أن تهزم أو تهدم حضارة قائمة على ثقافة
صحيحة سليمة جامعة.
وكما أن الثقافة هي الركن الأساسي لبناء الحضارة فان البنيان
الحضاري بعد أن يقوم يلقي بظلاله على الثقافة بحيث يمكن اعتبار
الحضارة القائمة رافداً جديداً من روافد الثقافة المستقبلية، وتقوم علاقة
نمو متبادل مضطرد (أتصور يريد أن يقصد - طردي) بين الثقافة
والحضارة.
وما يقال عن الحضارة والعلاقة المتبادلة بينها وبين الثقافة يقال عن
المدنية التي هي وليدة الحضارة ومظهرها الواقعي العملي.
من المهم أن نشير هنا إلى أن هنالك من يسوي بين الثقافة والحضارة
ويجعلهما مفهوماً واحداً، ومن اشهر هؤلاء تايلور في القرن الماضي.
وهنالك من يفرق بينهما إما على أساس أن الثقافة تشير إلى ما هو
عقلي في حين تشير الحضارة إلى ما هو مادي أو بالعكس على
أساس أن الثقافة تعني المظاهر المادية للحضارة كالتقنية والصناعة
وأن الحضارة تعني المظاهر الأدبية والفلسفية والعقلية.
وعلى سبيل المثال فان المفكرين الأوروبيين في عصر النهضة ـ ولا
سيما الألمان منهم ـ يقصرون الحضارة على الإنجازات التقنية والمعرفة
العلمية الموضوعية التي يمكن أن تقاس قياساً كمياً، في حين يرون
أن الثقافة تشير إلى المعرفة الذاتية غير الوصفية ذات الأحكام
التقويمية كالديانات والاعتقادات والأخلاق والفلسفة والآداب والفنون
(16). والحقيقة أن الثقافة والحضارة متداخلتان إلى ما دون التساوي
ومتمايزتان دون تباعد.
(لي) هذا الجدل بين العلاقة بين الحضارة والثقافة له دوافع، فالذي
يريد أن يبقى في عالم الخيال دون الإنتاج يدافع عن جانب، والمتطور
والمحب له والمنتج يدافع عن النتائج ويعطيها القيمة الفعلية، وليس
الفكري النظري، بل الفكر المنتج والعملي. فواقع الحضارة ما هو مبان
وظاهر ومفيد مادياً، وله مردود إيجابي في نواحي عديدة وإن كان فيه
من السلبيات، لكون حتى الدواء المخصص له مردودات سلبية، لكنها
ضئيلة وقد تكون في عداد النفي نسبياً، وهذا الأمر مطابق لقول الله
تعالى: مضاره أكثر من منافعه...وقد ينقلب لأمر آخر مفيد ظاهراً وفعلاً
وقولاً واصطلاحاً بأن منافعه أكثر من مضاره. وهذا الأمر نسبةً
للمقصود...فالثقافة والحضارة فيهما منافع ومضار والمظاهر الحضارية
المعروفة منافعها أكثر من مضارها، وإن أراد بعض المتقوقعين بيان
السلبيات على أنها أكثر من الإيجابيات..ويمكنني تسميته الخوف من
الجديد. وقد عبر عن هذا الأمر بصراع الحضارات. وكل غريب
خطير...والتخوف من سيطرة الثقافة القادمة على الثقافة الأصيلة. هذا
الصراع لا يؤدي إلا للتجديد والحداثة حسب المفهوم المتداول.
5ـ غزو ثقافي أم تفاعل ثقافات
لا يمكن وضع سقف للتقدم الثقافي في عالم سريع التطور، دائم
التغير والتبدل بل والتحول.
إن وضع سقف لثقافة أمة يعني وقف نمو الأمة، والإخلال بشروط بقائها
ونمائها، وبالتالي بداية شوط السقوط والموت.
ولكي تبقى الثقافة في حالة نمو، لابد من انفتاح الثقافات المتنوعة
المتباينة على بعضها، الانفتاح الذي يسمح بالفعل والانفعال من أجل
الإطلال على آفاق جديدة من عوامل الثقافة ومكوناتها. لكن ذلك
مشروط بالانفتاح الحر الذي يتيح التفاعل الطبيعي الحر دون قسر أو
ضغط أو إلجاء ليتم في بوتقة التفاعل، فعل الثقافة الأصح والأكمل
والأشمل بالثقافات الأقل صحة وكمالاً وشمولاً. أو لنقل لتجتذب كل
ثقافة ما تحتاج لكمالها وشمولها من الثقافات المنفتحة عليها بشكل
حر يشبه انتقال السوائل في الأواني المستطرقة، ولا أقول يشبه
التفاعل بين السخونة والبرودة، بحيث يبرد الساخن ويسخن البارد
حتى تتساوى درجة الحرارة في السائلين المتجاورين.
إن هذا التفاعل الحر ـ الذي ينطوي على الفعل والانفعال ـ قد يؤدي
إلى الوصول إلى ثقافة عالمية باتت ملامحها شبه واضحة، يتوحد عليها
البشر في يوم من الأيام مهما طال انتظاره.
من هنا دعونا نطل على ما يسمى بالغزو الثقافي الذي يقابله الانهزام
الثقافي.
إن كل الثقافات الإقليمية والقومية والعرقية قابلة لأن تمارس الغزو
الثقافي أو أن تقع فريسة له بسبب الانهزام الثقافي.
والانهزام الثقافي في هذه الحال إما داخلي ذاتي أو لغزو ثقافي
خارجي.
أما عندما تكون الثقافة إنسانية عالمية فلا ينطبق على تحولاتها عنوان
الانهزام الثقافي، كما لا يمكن أن يوصم أثرها في الثقافات القومية
بالغزو الثقافي، بل إنه التفاعل الثقافي فعلاً وانفعالاً.
لا ينكر هنا أن القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية قد
تساند ثقافة ما فتصمد لوقت أطول أو ربما تفرض على الشعوب بالقوة
والقهر، لكن ذلك لن يدوم طويلاً، فكم من أمة مهزومة عسكرياً
استطاعت أن تهزم مستعمريها ثقافياً، وما زالت ماثلة في الأذهان
حالة التتار والمغول الذين اكتسحوا العالم الإسلامي عسكرياً ليجدوا
أن الإسلام قد اكتسحهم ثقافياً، ولم يترك أمامهم أي مجال سوى
تبني ثقافته واعتناق عقيدته وتمثل قيمه الإنسانية العليا، فاستسلموا
لذلك دون مقاومة.
إن الشعوب التي يخفت في أعماقها ووجدانها صوت ثقافتها، وتنبهر
أبصارها بوهج بريق ثقافة الغير، لابد أن تنهزم أمام الغير وأمام ثقافته،
وانهزام الشعوب ليس بالضرورة انهزاما للثقافة التي كانت تحملها،
فالثقافة القائمة على أسس سليمة وأركان صحيحة لا تنهزم لا في
السلم ولا في الحرب، وإن كمنت إلى حين تحت ضغط عوامل خارجية
طارئة ومؤقتة.
أما الثقافات الأخرى التي لا تملك مثل هذه الشروط والمقومات، فإنها
سرعان ما تنهزم وتؤول إلى الزوال، مهما لمع بريقها في حين من
الأحيان، ومهما روجت لها الأنظمة القوية المسيطرة عسكرياً واقتصادياً
وسياسياً، فالحق لابد أن يسود والباطل لابد أن يمحى من الوجود.
6-دور المثقف
بعد أن وضحنا مفهوم الثقافة بما لا يدع أي مجال للبس والغموض، بات
واضحاً كذلك معنى المثقف، فالمثقف هو مظهر الثقافة ومصداقها
والمعبر عنها وحاملها وموصلها لسواه.
صحيح أن المثقف ليس هو الذي يوجد الثقافة فهي موجودة بدونه،
لكن المثقف هو الذي ينقلها من السكون الى الحركة، ومن الخمول
إلى النشاط. ولكن ليس هو الموجد لها.
وإذا كانت الثقافة الصحيحة السليمة تحتفظ في داخلها بشروط بقائها
فماذا يبقى للمثقف من دور؟!
وجواب هذا السؤال أن المثقف هو أحد بل أهم شروط ظهور الثقافة،
فلا ظهور للثقافة دون مثقف.
إن القيم والمفاهيم والمعلومات والعقائد والفلسفات والأخلاق وكل
مكونات الثقافة ومقوماتها تبقى صوراً تجريدية ذهنية ما لم تظهر على
أرض الواقع وتتجسد في مصاديق مادية عملية.
إن الصراع بين الحق والباطل لا يكون الا إذا كان لكل منهما مصاديق،
ولابد لكل منهما أن يجد من يحمله ويبشر به ويجعل من نفسه
المصداق... المصداق العملي له على أرض الواقع، هذا هو دور
المثقف:
ـ أن يتمثل ثقافته جيداً فكراً وسلوكاً.
ـ أن يعمل جاداً للتبشير بثقافته.
ـ أن يدفع عنها عوامل الانهزام الداخلي وعوادي الغزو الخارجي.
وانما يدفع المثقف عن ثقافته عوامل الانهزام الداخلي بما سبق أن
المحنا إليه من التفاعل الحر مع الثقافات الأخرى، وعدم الانغلاق على
محيطه وبيئته، وعدم الخلط بين الثابت من الحقائق والمتغير من التراث
والعادات والتقاليد، والتمييز الواضح بين ما هو من الأسس والأركان وما
هو من المتممات والمكملات (أي ما هو من هيكل البناء وما هو من
الإضافات والديكورات)، والحرص على عدم تخلف الثقافة عن العصر،
وعن الفعل فيه فعلاً إيجابيا، والتحرك داخل العصر وعينه على
المستقبل الآتي بما يحمل من آمال وتطلعات وبما يحقق من أغراض
وأهداف.
ويدفع عنها الغزو الخارجي بالتخطيط الدقيق والتكافل والتضامن
والتعاون مع أبناء ثقافته أياً كان عرقهم ولونهم ولغتهم.
(إن أهمية المثقف إنما تنبثق من أهمية الثقافة نفسها وحاجة
المجتمع إليها)(17).
ويميز البعض بين مثقف ساكن ومثقف متحرك، الأول لا دور له في
مجتمعه والثاني ينهض بدوره في المجتمع، وبين مثقف منغلق ينتج
ثقافة الجمود ومثقف منفتح ينتج ثقافة التجديد، الأول يعيش خارج
الزمن فمسيرته إلى التوقف والثاني يواكب الزمن ويعيش فيه فمسيرته
إلى النمو، ويميز بين مثقف النخبة الذي يعيش بعيداً عن الناس
ويتحدث بخطاب القلة أو النخبة فقط ومثقف الجمهور الذي يعايش
الناس ويتحدث بخطابهم خطاب الجمهور والكثرة، ويميز بين مثقف
مستبد يتحول قلمه إلى رفض الآخر، ولا يتحدث الا بلغة الرفض والنفي
والإقصاء ويمارس القمع والإرهاب، ومثقف شوروي (أو ديمقراطي)
يتحدث قلمه بلغة التعددية والتعايش والتسامح ويمارس الحرية
والعدالة، ويميز بين مثقف السلطة الذي يكرس الاستبداد ويمارس
الظلم ويعشق المال ومثقف الأمة الذي يعشق العلم وينشر العدل
ويزرع الحرية(18).
ونحن ـ مع من ـ يريد ظهور المثقف المتحرك مع آمال الأمة وتطلعاتها
وقيمها ومفاهيمها، المنفتح على كل الثقافات القديمة والمعاصرة،
الذي يتبنى الحرية والعدل والشورى ويخاطب جماهير الناس ونخبتهم
(نخبهم)، كلّا بما يناسبه، ولا يقصر خطابه للنخبة فقط.
نريد المثقف الذي يستشعر المسؤولية الخطيرة والجسيمة، فيتمثل
دور النبي لا دور الفيلسوف، نريد المثقف الذي ينطلق من جوهر
مفهوم الثقافة الذي يفترض فيه التحرك لنشر رسالته الثقافية داخل
المجتمع وعلى الصعيد الإنساني العالمي، وتوضيح آفاقها ومنطلقاتها
وأهدافها، وترسيخ مفاهيمها الرسالية باللغة التي يفهمونها والتي
تحركهم لأنها تتحدث عن قضاياهم ومشاكلهم التي يعانون منها
والظروف التي يعيشون تحت أسرها، والآمال التي تراودهم، والأهداف
التي تعيش في قلوبهم وأفئدتهم؛ لغة من قد وطد العزم على كسر
القيود وفك الأغلال عن الإنسان، ورفع الظلم والحيف والاستبداد، ونشر
الأمن والحرية والعدالة في المجتمع الذي يعيش فيه أولاً، وبين الناس
كلهم في شتى أرجاء الأرض ثانياً.
(لي) قبل إنهاء هذه الفقرة أو ذكر شيء بسيط، وهو أن عقل
الإنســـان متكون من جهازين استقبال وبث للمعلومات بإضافة أجهزة
أخرى، كالجزء التحليلي للحوادث، وجهاز خزن المعلومات الدائمة،
وجهاز خزن المعلومات المؤقت. فعند تأمل المثقف لقضية معينة يراد
إيجاد تحليل صائب له، هذا التأمل في نظري هو تحريك جهاز البحث
والاستقبال لتقبل المعلومات الموافقة مع فكرة التأمل لغاية معينة
إيجابية أم سلبية. وأن جميع المعلومات المعروفة وغير المعروفة
المبهمة والواضحة الضارة والنافعة...كلها موجودة في الكون على هيئة
ذرات تتطاير في مكان بعيد أو قريب. مقدار قوة جهاز البحث والاستقبال
هو الذي يحدد كم المعلومات ونوعيتها وسرعة جلبها. وبعدها ترسل
كل تلك المعلومات لجهاز التحليل لتنتج فكرة صائبة ملائمة. فأي عقل
تحمل وعلى أي نوع من العلوم روضته وربيته...سينتج لك مثله، أو
مقارب وفي أحسن الأحوال الأفضل وهو المراد. أنا أرى للمثقف دور
هام وخطير في الوقت ذاته، وهذا يعتمد على نوع الثقافة التي يحملها
ويتعامل بها ويحاول إيصالها للمجتمع. فالمثقف هو المغير وجهاز
الحراك الاجتماعي. يمكن للمثقف أن يبني كما يمكنه أن يهدم،
وباستطاعة المثقف أن يهيأ أجواء سليمة وسلمية، كما يمكن له أن
يخلق النزاعات والأمراض الاجتماعية. فكل ذلك يعتمد على التراكمات
الثقافية، وغاياته. وكذلك يعتمد على نوعية المجتمع والبيئة الخصبة
لزرع الأفكار، أو المجتمع الجامد والرافض للمتغيرات.
الهوامش
1ـ مفهوم الثقافة بين اللغة والاصطلاح
2ـ تعريف الثقافة
3ـ كيف تتكون الثقافة
4ـ العلاقة بين الثقافة والحضارة
5ـ غزو ثقافي أم تفاعل ثقافات
6ـ دور المثقف
1 ـ معالم على طريق تحديث الفكر العربي ص29 د، معن زيادة.
2 ـ القاموس المحيط مادة ثقف، 3/121.
3 ـ القاموس المحيط ـ المعجم الوسيط ـ المنجد.
4 ـ المورد القريب تأليف منير بعلبكي.
5 ـ معالم على طريق تحديث الفكر العربي ص30 للدكتور معن زيادة ينقله عن كتاب إدوارد ب تايلور (الثقافة البدائية) الصادر عام 1881م و الجدير ذكره أن تايلور لا يفرق بين الحضارة والثقافة فهذا التعريف لديه ينطبق على كل من الحضارة والثقافة على السواء.
6 ـ معالم على طريق تحديث الفكر العربي ص30.
7 ـ المصدر السابق ص31.
8 ـ المصدر السابق.
9 ـ المصدر السابق. 10 ـ المصدر السابق.
11 ـ الثقافة الإسلامية للدكتور عبد الكريم عثمان ص9.
12 ـ الثقافة.. الغزو الثقافي للسيد فوزي الجودة، دراسة منشورة في دورته/المناضل/العدد 280 ص44.
13 ـ معالم على طريق تحديث الفكر العربي ص29.
14 ـ رسالة المثقف في عصر النهضة ـ مجلة البصائر عدد /19/ ص54.
15 ـ نفس المصدر.
16 ـ معالم على تجديد الفكر العربي ص44ـ45.
17 ـ مجلة البصائر عدد /19/ ص55. 18 ـ المثقف والمجتمع لعدد من الباحثين ص8-9.
المصدر:
www.annabaa.org شبكة النبأ المعلوماتية