وروى في فتوح الشام: أنه لما كان أبو عبيدة منازلا ببيت المقدس أرسل كتابا إلى عمر مع ميسرة بن مسروق رضي الله عنه يستدعيه الحضور، فلما قدم ميسرة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها ليلا، ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر رضي الله عنه.
وفيه أيضا: أن عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار واسلم وفرح عمر بإسلامه، قال عمر رضي الله عنه قه: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أ . هـ .
وأقول: إنه قد ثبت مما ذكرنا أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه والصلاة في مسجده الشريف والتمتع بالجلوس للذكر والتلاوة في الروضة الشريفة ورؤية منبره ومصلاه ومجلسه وغير ذلك. إنه عمل مشروع ومأمور به من الشارع وفيه قربة لله عز وجل يثاب فاعلها. ويذم تاركها إن كان قادرا على الأداء ولم يفعل. ومن أراد المزيد فليطالع شفاء السقام للسبكي والشفا للقاضي عياض ونسيم الرياض للخفاجي وكذا شرح ملا على القاري والخصائص الكبرى والصغرى للسيوطي ومفاهيم يجب أن تصحح لابن علوي المالكي وجواهر البحار للنبهاني وغيرها كثير.
3. آداب الزيارة
روي القاضي عياض رحمه الله تعالى في كتابه الشفا بسنده المتصل عن شيوخه إلى أن حميد قال: ناظر أبو جعفر "المنصور" أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال:
{لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }
ومدح قوما فقال:
{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم }
وذم قوما فقال:
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }
وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة. بل استقبل واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى:
{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}
وقال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني ـ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب افضل منه.
وقال: حج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع نمه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى ارحمه. فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه ـ أي كتب عنه الحديث وروايته.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه. فقيل له يوما في ذلك. فقال: ل رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمدا بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه.
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ـ الصادق ـ وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم أصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة ولقد اختلفت الياه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا وإما صامتا وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز وجل ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم بن محمد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فيه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير: فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقرئهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته. أ . هـ .
وروى القاضي عياض أيضا: أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته لها. فبكت حتى ماتت.
وكذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس أدبا معه وأشد هيبة منه رغم تواضعه الشديد. فقد كانوا يهابونه احتراما ويتأدبون معه حبا وإجلالا ويوقرونه إعظاما لمقامه حتى أنك لتجد الرجل منهم إذا سئل عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع. ولذلك اعتذر عمر رضي الله عنه عن وصفه لمن طلب منه ذلك. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه لمن طلب منه أن يصف له النبي صلى الله عليه وسلم "والله ما ملأت منه عيني قط حتى أستطيع أن أصفه" لأنهم كانوا يهابونه مهابة إجلال وإكبار مراعاة لمقامه العالي فلم يقدروا على التفرس في وجهه الشريف، لأن العين لا تقدر أن تبصر في مواجهة قرص الشمس.
وكذلك كان حالهم عندما يزورونه في قبره الشريف فقد كانوا يقفون أمام القبر وهم يصلون ويسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه في أدب وحياء يندر وجوده في مسلمي هذا الزمان لذلك يجب على المسلم أن يعي آداب الزيارة وأن يلتزم بالسلوك القويم ويشتد تمسكه بالخلق العظيم فترة قيامه بأعمال الزيارة الميمونة.
فعلى المسلم أن يدخل المدينة المنورة في أدب واستحياء مستحضرا عظمة الله تعالى وليذكر أنه في حرم الله ومسكن النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما تقع عينه على المدينة المنورة يرفع صوته بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا وصل إلى المسجد الشريف وق وقال: اللهم إن هذا هو الحرم الذي حرمته على لسان نبيك وحبيبك ورسولك صلى الله عليه وسلم ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثل ما هو بحرم بيتك الحرام. فحرمني على النار. وأمتي من عذابك يوم تبعث عبادك. وارزقني ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك ووفقني فيه لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات