نزار في ذاكرة التاريخ
أصبح نزارقبانى من وجهة نظر مثقفى الخمسينات مجرد شاعر ماجن يكتب عن "الحب والنساء" فقط ومرت السنوات.. واستيقظت الامة العربية ذات مساء على المشهد الدرامى الحزين لسقوط أمة بأكملها وربما عصربأكمله بين أنياب النكسة.. بمرارتها القاتلة وأظافرها الشرسة.. وبعدها توالت الاحداث . وألقى المثقفون رسائل الحب والغرام التي سرقوها من اشعار نزار فى سلة الذكريات وكانوا فى حاجة للبكاء على حلمهم إلضائع.. وامتنعوا عن قراءة نزارسرا وجهرأ.
واعتبرالمثقفون - يومها- أنه من قبيل الخيانة للوطن أن تعود لتقرأ نزار أو تستمتع به.. فلم يكن أمامهم إلا أن تثور وتتمرد وتحتقن أصواتها بالهتاف ضد من باعها أو خدعها..
وكما أثار نزار حوله العديد من المعارك عندما كتب أشعاره عن الحلمات والنساء.. أثار أيضأ أضعاف هذه المعارك عندما كتب كراسته الصغيرة "هوامش على دفتر النكسة" وانقسم الناس ما بين قراء ونقاد ومفكرين إلى مؤيد ومعارض لقصيدة نزار الجديدة.
فقد صدرت "الهوامش " بعد الهزيمة بأقل من شهرين تنكىء الجرح وتضرب على الوتر المشدود فلقيت رواجا مذهلا سواء من المعارضين أو المؤيدين. إذ كانت القصيدة لحنا جنائزيا يستهوى الأفئدة. واعتبر معظم النقاد المعارضين للقصيدة أن "الهوامش " موجة من موجات شعر"التشفي" التى انتشرت فى أعقاب النكسة والتى يعد نزار قبانى أبرز وجوهها . وتحول كاتب الهوامش بين غمضة عين وانتباهتها من شاعر الحب والحنين إلى شاعر يكتب بالسكين (!!)...
جاءت "الهوامش "- آنذاك- وتلقفها الساخطون والمتمردون على كل شئ كالعطشى تروى بها ظمأ السنين والحرمان من المشاركة الفعلية فى الحياة السياسية.
وأول هذه العبارة:
"مالحة فى فمنا القصائد
مالحة ضفائر النساء
والليل والأستار والمقاعد
مالحة أمامنا الأشياء.. "
أصبح لحظتها يتكلم نزار بلسان جميع أبناء الجيل الساخط والمتمرد رغم تحذيرات المثقفين الذين نهوا عن تعاطى أشعار نزار قبانى..
فماذا يكتب أى شاعر بعد أن أسدل الستار على هذا المشهد الدرامى الكئيب؟!
كان كل ما تبقى فى القلب غيظ مكتوم.. وأحزان ثقيلة مبهمة.
مهما اختلف الناس أو اتفقوا مع نزار فقد كانت بالفعل كل الأشياء مالحة.. وفى مرارة العلقم فى حلوق الاجيال. وكانت قد فقدت براءتها ولهوها.. وحملنت السلاح ولم يمض سوى أيام قليلة.. وكانت القصيدة إعلانا عن مقاطعة نزار للنساء.. فتبع المثفقفون خطاه. تحت شعار:
لا وقت للحب..
فمالحة فى فمنا القصائد.. مالحة ضفائر النساء..
وتحولت مقاطع عديدة من قصيدة "الهوامش " إلى شعارات يرددها لمثقفون. وقد صدقت نزارعندما قال:
ياوطنى الحزين.. حولتنى بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
الشاعرنزار راجع ذاته وأخذ يجلدها بنفسه.. نزع قمصانه المزركشة التى يغوى بها النساء وارتدى سترته العسكرية ونزل مع الجماهير لساحة القتال. لقد صدقه..المثقفون رغم آراء المعارضين.. لأنها كانت بحاجة لأن تصدق أحدا.. أى أحد.. لأنها فقدت ثقتها بكل شئ....
وبعد أن كان نزار يقول عن نفسه أنه:
".... مسئولا عن المرأة حتى الموت "
و "أننى حارس ليلى على باب المرأة! "
نجده يصرح فى لقاء لجريدة الشرق الأوسط.. وكأنه يستغيث ويتبرأ من كل التهم التى ألصقت به فيقول:
أهل من الممكن، إكراما لكل الأنبياء، أن تخرجوني من هذه القارورة الضيقة، التى وضعتنى فيها الصحافة العربية، أى قارورة الحب والمرأة ، وكأنه يسعى للتطهر من سنوات المجون والمراهقة.
تحرر نزار أولا من كل محاذير اللغة وتقاليد الأدب العربى.. وممنوعات التناول الشعرى.. ولهذا نجح نزار فى ثورته على كل اللغات القديمة واستطاع أن يفلت من مخالب لغة القواميس الميتة.. ويقول نزار عن ثورته على اللغة القديمة:
"كانت لغة الشعر متعالية بيروقراطية.. بروتوكولية لا تصافح الناس إلا بالقفازات، وكل ما فعلته أننى أقنعت الشعر أن يتخلى عن أرستقراطيته، ويلبس القمصان الضيقة المشجرة.. وينزل إلى الشارع ليلعب مع أولاد الحارة، ويضحك معهم ويبكى معهم.. وبكلمة واحدة رفعت الكلفة بينى وبين لغة (السان العرب) و(القاموس المحيط) وأقنعتها أن تجلس مع الناس فى المقاهى والحدائق العامة وتصادق الأطفال والتلاميذ والعمال والفلاحين وتقرأ الصحف اليومية.. حتى لاتنسى الكلام ".
من محمد بغدادي :
من الكتاب الذهبي – مؤسسة روز اليوسف – عدد خاص تذكاري
ويرى نزار الحل فى الاعتماد على لغة ثالثة فيقول:
".. وكان الحل هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها.. ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة.. وبهذه (اللغة الثالثة) نحن نكتب اليوم، وعلى هذه اللغة الثالثة يعتمد الشعر العربى الحديث فى التعبير عن نفسه دون أن يكون خارجا عن التاريخ ولاسجينا فى زنزانته ".
إذن فنزار كان يدرك أن اللغة اداة اتصال جماهيرى.. لتوصيل أفكاره الملتهبة فى الحب والسياسة، ولهذا فهو يكتب قصائده فى شكل منشورات تحريضية ( التثوير )
ورغم كل شئ فإن نزار قباني نتفق او نختلف معه فهو في النهاية شاعر عربي كبير عملاق بجماهيره الواسعة العريضة .. وبمحبيه وعشاقه الذين لا حصر لهم .. وهو شاعر عربي كبير بحجم عطائه وامتداد تجربته عبر خمسين عاما من الشعر .. وهو شاعر عربي مجدد لأنه استطاع أن يحفر لقصيدته طريقاً ومساراً مختلفا عمن سبقوه في الشكل والمضمون والصياغة.
***