تأتي الذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بين السابع والعشرين من ديسمبر2008، والثامن عشر من يناير2009، والذي أسفر عن سقوط 1400 شهيد فلسطيني على الأقل، وإصابة خمسة آلاف، في ظل أوضاع مأسوية يعيشها أهل القطاع، وصمود أسطوري قل أن تجد نظيره، على مدار التاريخ البشري والإنساني.
دعونا نرسم بالكلمة والقلم، هذه الحالة يعيشها أهل القطاع، ونستعيد ذكريات فرض التجويع والحصار، فقد جاء هذا الحصار الإسرائيلي على خلفية انتخاب أهل القطاع لحركة حماس، حيث شددت إسرائيل من أمنها وأغلقت معابرها، عقابا لأهل غزة على اختيارهم وانحيازهم لمشروع المقاومة، وتخليهم عن مشروع الاستسلام المذل والمهين.
ولكن أهل القطاع ابدوا تماسكا مذهلا، ووجدوا سبيلهم للحياة الكريمة بقليل من الطعام الذي يأتي من هذه المعابر، أو من الأنفاق الأرضية، التي قد يدفعون فيها حياتهم ثمنا غاليا لوفير احتياجاتهم الضرورية دون التخلي عن حماسهم التي تعبر عن روح العزة والكرامة، في وجه الصلف والعدوان ومشاريع الهزيمة والسلام التي يراد تمريرها.
وحينما أدرك الاحتلال أن هذا العقاب وحده ليس كافيا، للنيل من غزة وأهلها، سلط كل ما في جعبته من رصاص مصبوب على أهل القطاع، قبل عام من الآن، أملا في تركيع الغزاويين وإسقاط المشروع المقاومة بين أيديهم، ففرغ الرصاص، وحصد الآلاف من الشهداء، وخلف الآلاف من الجرحى، ولكنه لم يحصد روح الانتصار والمقاومة من أجساد من بقي حيا، فبقيت غزة وبقيت معها حماس في ميدان واحد أمام جبروت القوة العمياء التي مارسها الاحتلال.
جرح الاحتلال من جرح من أهل غزة وقتل من قتل، ولكنه حقيقة لم يكن وحده في الميدان، فقد وقفت سلطة رام الله، تجسد معنى الخيانة في صورة فظة غليظة، داعمة للقتل والدمار الذي يلحق ببني جلدتهم، ولم تكن إلا جلادا، يلهب ظهور الغزاويين بسياط الخيانة المروعة، بدلا من أن تكون ظهيرا معاونا، حتى من قبيل العمل بقليل مما صدعت به الرؤؤس من معاني الوطنية، ووحدة المصير بين الضفة الغربية وقطاع عزة.
فقد فضحت التسجيلات التي أذاعها الاحتلال الإسرائيلي، عناصر تقود السلطة الفلسطينية، وهي تحرض على استمرار العدوان والقتل حتى آخر قطرة من الرصاص المصبوب، أملا في العودة والسيطرة والتشفي من حماس، ولو على حساب الأشلاء والدمار والخراب..
فنيت الحرب وانتهت، وبقيت الخيانة معلقة بأعناق الأقزام، وارتفعت هامة أهل العزة، بوقوفهم الأسطوري أمام تحالف الأعداء والرؤساء، حيث باء الأولون بالخيبة العسكرية بعدما افنوا كل ما في جعبتهم من أسلحة، وفاز الآخرون بالخيانة التاريخية.
ولم يكن العرب، من حول القطاع قريبا أو بعيدا، ببعيدين عما يحدث في القطاع، ولم يكونوا درعا يحتمي به أهل غزة.. كما لم يكونوا حصنا يلجا إليه من فزّعته الحرب ونالت من جسده المنهك.. ولم نسمع لهم صوتا قويا يوقف العدوان..كما لم نسمع حتى تلويحا بقطع العلاقات مع الاحتلال حتى يوقف مجزرته البشرية الدموية.
كان موقفا عجيبا، غير مألوف لبنى البشر، أن يجد العرب مجمعون على أمر واحد، وهو ترك أهل القطاع يواجهون مصيرهم بمفردهم، فما عاد في الجعبة شئ ذو بال...هذا كان من العرب، الأقارب منهم والأباعد، على حد سواء.
وليتهم لبثوا في سلبيتهم هذه، وتركوا الغزاويين لمصيرهم، بل ذهبوا يسلطون ألسنة حداد على حماس، وعدّوها سبب البلاء والحرب، وعلى من اختارها أن يتجرع مرارة اختياره، فنفضوا أيديهم من النصرة الواجبة.
بل واشتد بعضهم، وذهب إلى تشديد الحصار، بغلق المعابر، ومنع وصول القوافل الطبية والعلاجية، والطعام والغذاء، ولم يعدم مبررا، يسوقه يبرر به موقفه، من نحو السيادة، والاتفاقات الدولية، إلى غير ذلك من الشعارات المطاطة، التي تذوب حينما نجدا انتهاكا من عدو متربص، يرابط على الحدود.
وإذا كان هذا هو موقف العرب من قضيتهم ومن بني جنسهم، فما بالك بالعالم، الذي انعقد لسانه عن الإدانة، ولو حتى بكلمات لا تجرح إسرائيل أو تغضبها، والمؤسسات الدولية التي عقمت عن إنجاب قرار ينصف المظلوم ويوقف الباغي، بل ذهبت تبحث عن مصطلحات موزونة تصك بها قرارها فما وجدت، فآثرت حينها نفض يديها واللوذ بالصمت الذي رأت فيه نجاتها من غضب إسرائيل.
هذا ما كان من العالم بأسره، بينما وقفت الترسانة العسكرية الأمريكية على مصراعيها، تقدم لإسرائيل كل ما تبغيه وتتمناه من الأسلحة والذخيرة، تضاعف بها سمومها ونيرانها، بعدما أوشكت نيرانها أن تنطفئ، وذخيرتها أن تنفذ.
وصمد القطاع في وجه العدوان العالمي، ولم يفلح كل هذا الجمع في إسقاط غزة وإذلالها، بل صبر القطاع وجاهد، حتى كسرت الشوكة وأجهض التآمر الذي دبر بليل بهيم.
وقد انقضى العدوان، نعم، ومر عام على ذكراه الأولى، ولكن بقيت المؤامرة على غزة باقية، وبقي تحالف الأعداء على أهل القطاع لم ينفض، فالجوع والحصار من قبل الاحتلال ما زال يفتك بهذه الأجساد الصابرة، والجدار على الحدود مع الجيران العرب يشق الأرض بحثا عن نفق يهدمه، وطعام يمنعه، وماء يفسده، ليقطع شريان الحياة تماما عن أهل القطاع.
وتذهب أموال العرب في بناء ناطحات السحاب وصالات القمار والملاهي في لاس فيجاس وغيرها، ولا يجد أهل القطاع إلا الطين لإعادة بناء بعض بيوتهم التي دمرها الغزاة الصهاينة في محرقة دامت 22 يوما.
وسلطة رام الله على عداوتها، وتأمرها، ما زالت رابضة، والعالم في موقف المتفرج حينا، والمتآمر في أحيان أخرى لم يتزحزح..
ولكن، الأمل يبقى دائما، ولا يموت، فحينما ينتصر للقضية ابعد الناس عنها، وحينما يتجشم النائي الأوروبي جورج جالاوي ومعه مئات الشخصيات والأطفال عناء طريق طويل وشاق ومخاطر لا تخفى، ليوصل الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية إلى غزة، ويمنعه العرب، فان الأمل يبقى حيا.
وحينما ينتصر اليهودي جولدستون لغزة، ويدين الاحتلال الإسرائيلي، ويطالب بمحاكمة قادته على جرائم الحرب في المحافل الدولية، وتمنعه سلطة رام الله، وتقوض تقريره، فان الأمل يبقي حيا.
وحينما ترفع قضية ضد قادة الاحتلال الإسرائيلي في بريطانيا، على جرائمهم في غزة، وتضطر مجرمة الحرب تسيبي ليفني لإلغاء زيارتها خوفا من الاعتقال، ويستقبلها العرب في منتدياتهما ومحافلهم، فإن الأمل يبقي حيا.
سيبقى الأمل حيا في انتصار أهل غزة، ولو أتى لهم النصر من غير بنى جلدتهم وقادتهم وجيرانهم، سيبقى الأمل حيا، حينما يعلن موت الخيانة ويفضح المؤامرة.