بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21).
قال ابن كثير في تفسيره: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه -عز وجل-،-صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين- ولهذا قال الله -تعالى- للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، أي هلاّ اقتديتم له، وتأسيتم بشمائله، ولهذا قال: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أ.هـ.
وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "الأسوة القدوة، والأسوة ما يُتأسِّى به، أي: يُتعزَّى به، فيُقتدى به في جميع أفعاله، ويُتعزى به في جميع أحواله، فلقد شُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته، وقـُتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يُلفَ إلا صابراً محتسباً، وشاكراً راضياً. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: (شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حَجَر حَجَر، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حجرين)(1) خرَّجه أبو عيسى الترمذي، وقال: حديث غريب رواه الترمذي، وضعفه الألباني،
وقال -صلى الله عليه وسلم- لما شُجَّ: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)متفق عليه)..."أ.هـ من كلام القرطبي.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة والأسوة التي ينبغي أن توضع أمام العيون؛ حتى يتأسي به الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والشاب والشيخ في كل مناحي الحياة، في معاملته لنفسه أولاً قبل معاملته للآخرين.
لنتعلم منه كيف يربي الواحد منا نفسه، ويأخذها بزمامها إلى الله -تبارك وتعالى- ويسير بها على طريق الهدى، وإن واجهته العقبات والصعاب والأمور التي لا تحبها النفس ولا تركن إليها، ولكنه يواجهها بقوة وشجاعة، وحسم، وتوكل على ربه، وطلب للإعانة منه -سبحانه وتعالى-.
نتأسى به في معاملته لغيره، كيف كان يعامل أهله وجيرانه، وأرحامه وإخوانه، بل كيف كان يعامل من هو على غير دين الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم، فهذا كله موضع التأسي وغيره كثير، وليس هذا موضع التقصي.
نتأسى به وبإخوانه أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لأنهم الأمثلة الحية والقدوة الصالحة للبشرية، فقد اصطفاهم الله -عز وجل- على علم على العالمين، واختصهم بالصفات العالية والأخلاق الرفيعة الزاكية. وأمرنا بالاقتداء بهم كما قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(الأحقاف:35).
ولذا اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذكر فضائلهم ورفع منازلهم، مع أنه سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا خير البرية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذاك إبراهيم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، قال: ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى -عليه السلام- آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى) متفق عليه.
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: (قيل يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي خليل الله....) متفق عليه.
كم تحتاج البشرية في هذه الآونة بالذات إلى أن تتأسى بالأنبياء والمرسلين، لقد وصلت الحضارة المادية المعاصرة إلى أعلى الدرجات في البحوث العلمية والترقي بالإنسان من الناحية المادية والوصول به إلى الرفاهية، فإنهم يهتمون اهتماماً بالغاً برفاهية الإنسان والراحة البدنية، وفي مقابل ذلك دهس الإنسان كل القيم والمعاني الروحية والأخلاق النبوية والوصايا التي تلقاها من قبل الوحي حتى يحصل على هذا الهدف.
ومن هذا المنطلق لم تصبح القدوة للأنبياء والرسل والصالحين من البشر، وإنما أصبحت القدوة والأسوة في حياة الناس مرتكزة على الثوابت المادية، فأصبحت لمن يجني ويجمع أكبر قدر من المال أو يصل إلى أعلى المناصب الدنيوية، أو يحصل على أعلى الشهادات الجامعية أو...أو...، دون النظر إلى صلاحية هذه القدوة من الناحية الشرعية، ومدى ارتباط هذه القدوة بشرع الله، والتزامها بأوامر الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وتطبيقها لشرع الله في حياتها كلها، فانفصلت المعاني.
وقد تردت الأحوال إلى أن وصل الحال ببعضهم أن يضعوا الساقطين والساقطات، والفاسقين والفاسقات، والفاشلين والفاشلات، والتافهين والتافهات، والمهرِّجين والمهرِّجات، واللاعبين واللاعبات في محل القدوة والأسوة، بل وخصوهم بما هو أعظم من ذلك بأنهم نجوم المجتمع وأقماره الزاهرة، وهؤلاء هم من تُسلط عليهم الأضواء.
وتنحسر الأضواء عن العالم الرباني الذي يقوم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في حياته وحياة الناس، ويصدع بأمر ربه في الخلق ولا يخاف لومة لائم، وعن الطبيب الماهر الذي يتقى الله في عمله، ويبذل قصارى جهده في معالجة المرضى ومداواة آلامهم، وعن المهندس البارع الذي يبتكر الأساليب الجديدة في تطبيق النظريات العلمية المتطورة، وعن المخترع الكبير الذي يبذل قصارى جهده في اختراع ما يسعد الناس في حياتهم وعن......الخ.
وفي الجملة؛ عن النماذج المحترمة التي ينبغي أن تكون في محل الاقتداء والأنبياء، ولا يكتفي القوم بذلك، لا يكتفون بهذه الحالة التي هي أقرب إلى حالة الغيبوبة وفقدان الوعي، بل يهاجم القوم من ينادي بالرجوع إلى التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبصحابته الكرام -رضي الله عنهم-،
الذي جسدوا معاني الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حياتهم الخاصة والعامة، وبذلوا قصارى جهدهم في تطبيق الإسلام في مناحي الحياة، حتى سادوا الدنيا، وفتحوا القلوب والعقول قبل أن يفتحوا البلاد والأمصار، يهاجمون من ينادي بالعودة إلى الاقتداء بهؤلاء بالرجعية والتخلف عن ركب الحضارة، مع أنه لا تنافي أبداً بين الآخذ بكل وسائل التقدم المادي وبين أن يرتبط الناس بهؤلاء الأفذاذ الذين جمعوا بين الأخلاق الحميدة والعبادة الطويلة والجهاد الكبير، والحرص على الأخذ بالأسباب المادية بعد الله -عز وجل-.
فإن ارتباطهم بهذه النماذج الفذة من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباد الله غذاء لأرواحهم، ونعيم لقلوبهم، وتقويم؛ حتى يستفيد الإنسان وتستفيد الإنسانية من هذا التقدم المادي، ولا يكون التقدم المادي سلاحاً فتاكاً لهلاك الإنسان والإنسانية.
نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا ويهدينا للاقتداء برسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصاحبته الكرام وأن يجعلنا من الصادقين... آمين...