تمهيد:
لقد جاءت الأدلة العقلية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات وجود الله وربوبيته، وهي كثيرة ومتنوعة وسهلة وواضحة؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ربهم وخالقهم، وحاجتهم إلى معرفته أشد من حاجتهم للماء والهواء والطعام والشراب.
ويمكننا أن نقول ابتداء: إن كل شيء يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، إذ مامن شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، وقد نبه القرآن الكريم إلى دلالة كل شيء على الله تعالى، كما في قوله عز وجل: {قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء }
[الأنعام: 164].
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
وقد سئل أحد الأعراب سؤالاً موجهاً إلى فطرته السليمة، فقيل له: كيف عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وجبال وأنهار، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟
وقد ذكر لنا القرآن استدلالات لأنبياء الله ورسله حين كانوا يناظرون ويجادلون بعض الملاحدة الذين ينكرون وجود الله، وإن كانوا في قرارة أنفسهم ليسوا كذلك، وإنما كانوا يقولون هذا تكبراً وعناداً واستعلاءً في الأرض. وإليك هذين المثالين من كتاب الله جل وعلا:
المثال الأول: إبراهيم عليه السلام مع الطاغية النمرود بن كنعان.
قال عز وجل: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } [البقرة: 258].
فقوله {ربي الذي يحي ويميت } أي: أن الدليل على وجوده سبحانه حدوث هذه الأشياء ووجودها بعد عدمها.
المثال الثاني: موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون مصر، وماكان بينهما من المقاولة والجدل، ومااستدل به موسى على إثبات وجود الله تعالى. وقد جاء ذلك في مواضع من القرآن.
قال تعالى: {قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }
[طه: 49-50].
أي أنه قد ثبت وجود وخلق وهداية للخلائق، ولابد لها من موجد وخالق وهاد، وذلك الخالق والموجد والهادي هو الرب سبحانه، ولا رب غيره.
وفي موضع آخر قال سبحانه: {قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب آبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } [الشعراء: 23-28].
والمقصود أن منهج الأنبياء في الاستدلال على ربوبية الله ووجوده هو استشهاد هذا الكون بأجمعه، واستنطاق الفطرة بما تعرفه وتقر به من حاجة الخلق إلى خالق، وافتقار البرية إلى بارئ. وما أجمل ما قاله الإمام الخطابي حول هذه القضية، يقول رحمه الله:
"إنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه ما يحتاج إليه ساكنه، من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم مجموعة والجواهر مخزونة كالذخائر، وأنواع النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وأنواع الحيوان مسخرة للراكب مستعملة في المرافق، والإنسان كالملك للبيت المخول فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً تام القدرة بالغ الحكمة ".
مظاهر دلالة المخلوقات على الخالق:
أ-دلالة الخلق والإيجاد والاختراع بعد العدم.
إن وجود الموجودات بعد العدم، وحدوثها بعد أن لم تكن، يدل بداهة على وجود من أوجدها وأحدثها.
وليس شرطاً أن يقف كل أحد على حدوث كل شيء حتى يصدق بذلك؛ بل إن ذلك غير ممكن كما قال عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً } [الكهف: 51].
ومما يدل على أن وجود الخلق دليل على وجود الله سبحانه عز وجل: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خَلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } [الطور: 34-36].
"هذا تقسيم حاصر، يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول، أم هم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعاً، فعلم أن لهم خالقاً خلقهم، وهو الله سبحانه. وإنما ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليتبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن إنكارها، فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هو أحدث نفسه ".
قال عز وجل: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [مريم: 67].
فدلت الآيات على حاجة المخلوق إلى خالق ضرورة.
ب- دلالة العناية المقصودة بالمخلوقات.
والمراد: ما نشهده ونحس به من الاعتناء المقصود بهذه المخلوقات عموماً، وبالإنسان على وجه الخصوص. قال عز وجل: {ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً } [النبأ: 6-8].
وقال عز وجل: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً } [الفرقان: 61].
وهذه العناية المقصودة ماثلة في العالم كله، فإذا نظر الإنسان إلى ما في الكون من الشمس والقمر وسائر الكواكب والليل والنهار، وإذا تأمل في سبب الأمطار والمياه والرياح، وسبب عمارة أجزاء الأرض، ونظر في حكمة وجود الناس وسائر الكائنات من الحيوانات البرية، وكذلك الماء موافقا للحيوانات المائية، والهواء للحيوانات الطائرة، وأنه لو اختل شيء من هذا النظام لاختل وجود المخلوقات التي هاهنا. إذا تأمل الإنسان ذلك كله؟ عَلِم عِلم اليقين أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والنبات بالاتفاق، بل ذلك من قاصد قصده، ومريد أراده، وهو الله سبحانه، وعلم يقيناً أن العالم مصنوع مخلوق، ولا يمكن أن يوجد بهذا النظام والموافقة من غير صانع وخالق مدبر.