باب الخوف من الشرك
وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
..................................
(1) أي باب وجوب الخوف من الشرك وتحتمه والتحذير منه، وبيان ما يتعلق به من الخسران الأبدي والعذاب السرمدي، وخاف الشيء: فزع منه واتقى ضد أمن. لما ذكر التوحيد وفضله وتحقيقه ناسب أن يذكر الخوف من ضده وهو الشرك، ليحذره المؤمن ويخافه على نفسه، قال حذيفة: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ". وفي الحديث: " من أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ". فيحذر المؤمن زوال تلك النعمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قيل له: يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟ قال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء" 2. فإن شاء سبحانه أقامها على دينه، وإن شاء أزاغها، وحقيقة الخوف من الشرك صدق الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والابتهال والتضرع إليه، والبحث والتفتيش عن الشرك ووسائله وذرائعه، ليسلم من الوقوع فيه.
(1) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، أي عادل غيره به فيما يختص به سبحانه، وصارف خالص حقه لغيره، ومشبه المخلوق العاجز بمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وإذا كان من مات على الشرك لا يغفر له، وجب على العبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، ومع كونه أعظم الذنوب عند الله سبحانه، ولا يغفر لمن لقيه به فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين.
-----------------------ـ
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 (1). وقال الخليل -عليه السلام-:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} (2) 2 (3).
..................................
(1) أي يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده، وفي الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى ثلاثا منها " وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات "3 يعني الكبائر، ففيه فضل السلامة من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، فتبين بهذه الآية ونحوها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وأما ما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفر لمن لقيه به، وإن شاء عذبه، ولا يجوز أن يحمل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له بنص القرآن، وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بتخليد أصحاب الكبائر في النار.
(2) هو إبراهيم بن آزر بن ناحور بن شاروخ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ولد ببابل قبل عيسى بألفي عام، وهاجر إلى الشام، وتوفي به بعد أن عاش 157 سنة. ومعنى إبراهيم بالسريانية أب رحيم. والخلة أخي من المحبة؛ ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم. ويأتي قوله: " فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا "5.
(3) أي اجعلني وبني في حيز وجانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها، وهذا مما يخيف العبد، فإذا كان الخليل -عليه السلام- إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده وابتلي بكلمات فأتمهن، وقد كسر الأصنام بيده، يخاف أن يقع في الشرك، فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، بل أولى بالخوف منه وعدم الأمن بالوقوع فيه. قال إبراهيم التيمي: (( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم )). وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وغيرها، وصرفت لها العبادات بأنواعها، وأشبهوا ما وقع في الجاهلية وأعظم =
-----------------------ـ
..................................
= واتخذوا ذلك دينا، وهي أوثان وأصنام، فإن الصنم ما كان مصورا على أي صورة، والوثن ما عبد مما ليس له صورة كالحجر والأبنية، وقد يسمى الصنم وثنا، كما قال الخليل: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}2. فالأصنام أوثان كما أن القبور بالنص أوثان، فالوثن أعم.
وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله، بل كل ما يشغل عن الله يقال له صنم، وقد بين الخليل -عليه السلام- السبب الذي أوجب له الخوف من ذلك بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 3. فإذا عرف الإنسان ذلك أوجب له الخوف أن يقع فيما وقع فيه الكثير، ولا يأمن الوقوع فيه إلا جاهل به، وبما يخلص منه من العلم بالله، وبما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده والنهي عن الشرك به.
(1) يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه، أي أشد خوف أخافه عليكم، وهذا من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته ورحمته هم، فلا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم عنه، وهذا الحديث أورده المصنف مختصرا غير معزو، وقد رواه أحمد والطبراني والبيهقي بأسانيد جيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيمة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء "4. والشرك قسمان: أكبر وأصغر، وبينهما فرق في الحكم والحد، فالأكبر: أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله كالمحبة، وحكمه أنه لا يغفر =
-----------------------ـ
ص -51- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "1. رواه البخاري (1).
..................................
= لصاحبه أبدا إلا بالتوبة، وأنه يحبط جميع الأعمال، وأن صاحبه خالد مخلد في النار. والأصغر: هو ما أتي في النصوص أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، وحكمه أنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة لعموم {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2، وأنه يحبط العمل الذي قارنه، ولا يوجب التخليد في النار، ولا ينقل عن الملة، ويدخل تحت الموازنة، إن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يخافه على أصحابه الذين وحدوا الله ورغبوا إلى ما أمروا به، وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر الناس اليوم بل كثير من علماء الأمصار لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، لم يعرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله، ويقولون: من قالها فهو المسلم وإن فعل ما فعل.
فينبغي للإنسان أن يحذر كل الحذر، ويخاف أن يقع في الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين، وهو وجه إيراده له مع أن الترجمة تشمل النوعين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك، وقد عمت به البلوى في أكثر الأقطار، حتى اتخذوه دينا مع ظهور البراهين في النهي عنه والتخويف منه. وفيه أن الرياء من الشرك، وأنه من الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
(1) وهذا الحديث فيه أيضا التحذير من الشرك والتخويف منه، فمن جعل لله ندا في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به، نبيا كان أو غيره دخل النار. قال ابن القيم:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران
-----------------------ـ
ص -52- ولمسلم عن جابر رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة (2) ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " (3) 1 .
..................................
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان
والند المثل والشبيه، يقال: فلان ند فلان ونديده، أي مثله وشبيهه، واتخاذ الند على قسمين: أن يجعل لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها، فهذا شرك أكبر، والثاني ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء، قال الشيخ: وكبخله - لحب المال - ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه لما يبغضه الله، حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر.
(1) ابن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي الأنصاري، صحابي جليل أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه جماعة، ومناقبه مشهورة، ولأبيه مناقب مشهورة مات بالمدينة سنة 74 هـ، وله 94 سنة.
(2) أي من مات لم يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة دخل الجنة، ففيه فضيلة السلامة منه. ومن حديث أبي ذر: " أتاني جبرائيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق "2، وفي الرابعة: " على رغم أنف أبي ذر "3. ودخول من مات غير مشرك الجنة مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخلها أولا، وإلا فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخلها أولا، وإلا عذب ثم خرج من النار وأدخل الجنة.
(3) فإذا كان التغيظ في النهي عن الشرك بهذه الشدة فينبغي شدة الخوف منه. وقوله: "شيئا" نكرة تعم قليل الشرك وكثيره، أما الأكبر فلا عمل معه البتة =
-----------------------ـ
ص -53- ...............................................
= ويوجب الخلود في النار، ولا فرق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من انتسب إلى ملة الإسلام أو خالفها، ومن المعلوم بالضرورة من الدين المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد. وأن من مات لا يشرك بالله شيئا يدخل الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحن. وأما الشرك الأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، ونحو ذلك فيطلق عليه الشرك كما في حديث: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "1 ونحو ذلك، ولكن لا يخرج بذلك من الملة بالكلية، ولا يستحق اسم الكفر على الإطلاق، فهو أخف من الأكبر، وقد يكون أكبر بحسب حال قائله ومقصده، واقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي، وفيه قرب الجنة والنار، والجمع بن قربهما في حديث واحد متقارب في الصورة.