بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسناد من الدين ومن خصائص أمة الإسلام
لقد من اللَّه -سبحانه وتعالى- على أمة الإسلام بخصائص كثيرة، وميزها بفضائل وفيرة؛ منها:
ما يتعلق بذات الشريعة السمحة من يسر العبادات، وسهولة المعاملات، ومضاعفة أجر الطاعات والمثوبات.
وما يتعلق بنقلها وتدوينها وضبطها وحفظها.
ومن أعظم هذه الخصائص للأمة الإسلامية: أن اللَّه شرفها بالعناية بـ (الإسناد) دون غيرها من الأمم، حتى غدا الإسناد الشرط الأول في كل علم منقول فيها حتى في الكلمة الواحدة، يتلقاها الخلف عن السلف، والمتأخرون عن السابقين حتى ثبتت نصوص الشريعة وعلومها، وأصبحت راسخة البنيان محفوظة من التبديل والتغيير.
وتتجلى عظمة علم الإسناد في كون علم الرجال شطر علم الحديث؛ كما قاله أمير المؤمنين في الحديث علي بن المديني.
ولقد أبلى علماء الملة وأمناء الشريعة بلاءً حسنًا في الذب عن السنة النبوية والشريعة الإسلامية، فلم يعرفوا المحاباة فيمن يتكلمون فيه؛ لأن الأمر دين، ولم تأخذهم لومة لائم فيمن جرَّحوه، ولو كان من عشيرتهم الأقربين؛ لأن الأمر نصح للَّه، ولرسوله، ولكتابه، وللمؤمنين.
لقد وصل الأمر بعلماء الإسلام من الحيطة والتثبت أن يظن بأنهم يريدون تزويج من يسألون عنه.
قال الحسن بن صالح: «كنا إذا أردنا أن نكتب عن رجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوه»([1]).
ولهذا كله كانت سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من آبائهم وإخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم.
قال علي بن المديني في والده: «وفي حديث الشيخ ما فيه، وأشار إلى تضعيفه»([2]).
وقد سئل علي بن المديني عن أبيه، فقال: «اسألوا غيري»، فقالوا: سألناك؛ فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: «هذا هو الدين؛ أبي ضعيف»([3]).
وقال أبو حاتم الرازي: «وكان علي لا يحدثنا عن أبيه، وكان قوم يقولون: علي يعق أباه، لا يحدث عنه»([4]).
وقال أبو داود في ابنه عبداللَّه: «ابني عبداللَّه كذاب»([5]).
وقال زيد بن أبي أنيسة في أخيه يحيى: «أخي يحيى يكذب؛ فلا تخبروا به أحدًا»([6]).
وقال: لا تكتب عن أخي يحيى؛ فإنه كذاب، وفي رواية قال: «لا تحملن عن أخي شيئًا؛ فإنه كذاب»([7]).
ولما سئل جرير بن عبدالحميد عن أخيه أنس، قال: «قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس؛ فلا يكتب عنه»([8]).
وكان أبو بكر الضبعي ينهى عن السماع من أخيه محمد بن إسحاق([9]).
ولذلك كله عظموا الإسناد وجعلوه من الدين، ومن خصائص أمة الإسلام، ليس لأحد سوى المسلمين.
قال التابعي الجليل محمد بن سيرين: «اتقوا اللَّه يا معشر الشباب! وانظروا عمن تأخذوا هذه الأحاديث؛ فإنها دينكم»([10]).
وقال: «إن هذا العلم دين؛ فانظروا ممن تأخذوا دينكم»([11]).
وقال مطر بن طهمان الوراق، في قوله -تبارك وتعالى-: {أو أثارة من علم} [سورة الأحقاف: 3]: «إسناد الحديث»([12]).
وكان محمد بن مسلم بن شهاب: إذا حدث أتى بالإسناد، ويقول: «لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة»([13]).
وقال سفيان بن عيينة: حدث الزهري يومًا بحديث، فقلت: هاته بلا إسناد، فقال الزهري: «أبرح السطح بلا سلم».
وقال عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي: «ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد»([14]).
وقال شعبة بن الحجاج: «إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد»([15]).
وقال: «كل شيء ليس في الحديث سمعت؛ فهو خل أو بقل»([16]).
وقال سفيان بن سعيد الثوري: «الإسناد سلاح المؤمن؛ فإذا لم يكن معه سلاح؛ فبأي شيء يقاتل»([17]).
وقال -أيضًا-: «الإسناد زين الحديث، فمن اعتنى به؛ فهو السعيد».
وقال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: «وقد حدثني علي بن الحسن، قال: سمعت عبداللَّه -يعني: ابن المبارك- يقول: إذا ابتليت بالقضاء؛ فعليك بالأثر، قال علي: فذكرته لأبي حمزة بن ميمون السكري، فقال: هل تدري ما الأثر؟ أن أحدثك بالشي فتعمل به، فيقال لك يوم القيامة: من أمرك بهذا؟ فتقول: أبو حمزة، فيجاء بي، فيقال: إن هذا يزعم أنك أمرته بكذا وكذا؛ فإن قلت: نعم خلي عنك، ويقال لي: من أين قلت هذا، فأقول: قال لي الأعمش، فيسأل الأعمش، فإذا قال: نعم؛ خلي عني، ويقال للأعمش: من أين قلت؟ فيقول: قال لي إبراهيم، فيسأل إبراهيم، فإن قال: نعم؛ خلي عن الأعمش، وأخذ إبراهيم، فيقال له: من أين قلت؟ فيقول: قال لي علقمة، فيسأل علقمة، فإذا قال: نعم؛ خلي عن إبراهيم، ويقال له: من أين قلت؟ فيقول: قال لي عبداللَّه بن مسعود، فيسأل عبداللَّه، فإن قال: نعم؛ خلي عن علقمة، ويقال لابن مسعود: من أين قلت، قال: فيقول: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن قال: نعم؛ خلي عن ابن مسعود، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: قال لي جبريل حتى ينتهي إلى الرب -تبارك وتعالى-؛ فهذا الأثر.
فالأمر جد غير هزل، إذ كان يشفي على جنة أو نار ليس بينهما هناك منزل، وليعلم أحدكم أنه مسؤول عن دينه وعن أخذه حله وحرامه؛ كالذي حدثني أشهل بن حاتم، عن ابن عون، عن محمد، قال: إن هذا العلم دين؛ فلينظر أمرؤ ممن يأخذ دينه»([18]).
وقال بقية بن الوليد: ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث، فقال: «ما أجودها لو كان لها أجنحة»؛ يعني: إسنادًا([19]).
وقال مالك بن أنس: «إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة، فانظر عمن تأخذه»([20]).
وقال -أيضًا- في تفسير قوله -تعالى-: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]: «هو قول الرجل: حدثني أبي عن جدي».
وقال عبداللَّه بن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد؛ لقال من شاء ما شاء»([21]).
وقال -أيضًا-: «مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد؛ كمثل الذي يرقى السطح بلا سلم»([22]).
وعنه -أيضًا-: «بيننا وبين القوم القوائم»؛ يعني: الإسناد([23]).
وقال -أيضًا- عن حديث: «إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي»(4).
وعن علي بن الحسين بن واقد، قال: ذهب رجل بجزء من أجزاء تفسير مقاتل إلى عبداللَّه بن المبارك، فأخذه عبداللَّه منه، وقال: دعه، فلما ذهب يسترده، قال: يا أبا عبدالرحمن! كيف رأيت؟ قال: «يا له من علم لو كان له إسناد»([24])(5).
ولقد حمل أصحاب الحديث يومًا على سفيان بن عيينة، فصعد فوق غرفة، فقال له أخوه: أتريد أن يتفرقوا عنك؟ حدثهم بغير إسناد، فقال: «انظروا إلى هذا يأمرني أن أصعد فوق البيت بغير درجة»([25]).
وقال صالح بن أحمد: يعني: «أن الحديث بلا إسناد ليس بشيء، وإن الإسناد درج المتون، به يوصل إليها»(3).
وقال يزيد بن زريع: «لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد»([26]).
وكان بهز بن أسد يقول -إذا ذكر له الإسناد الصحيح-: «هذه شهادات العدول المرضيين بعضهم على بعض، وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء، قال: هذا فيه عهدة، ويقول: لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم، ثم جحده، لم يستطع أخذها منه؛ إلا بشاهدين عدلين؛ فدين اللَّه أحق أن يؤخذ فيه بالعدول»([27]).
وقال محمد بن إدريس الشافعي: « مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد؛ كمثل حاطب ليل، [يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى، وهو لا يدري]»([28]).
وكان عبداللَّه بن طاهر إذا سأل إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن حديث؛ فذكره له بغير إسناد؛ سأل عن إسناده، ويقول:
«رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزَّمْنى، فإن إسناد الحديث كرامة اللَّه -عز وجل- لأمة محمد»([29]).
والزمنى: المرضى.
وقال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: «طلب إسناد العلو من السنة»([30]).
وقال -أيضًا-: «طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف»([31]).
وقال محمد بن أسلم الطوسي: «قرب الإسناد قرب أو قربة إلى اللَّه
-تعالى-»([32]).
وقال الإمام أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: «لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق اللَّه آدم أمة يحفظون آثار نبيهم، وأنساب [سلفهم]([33]) مثل هذه الأمة»([34]).
وقال -أيضًا-: «لم يكن في أمة من الأمم أمة يحفظون آثار نبيهم غير هذه الأمة، فقيل له: ربما رووا حديثاً لا أصل له؟ قال علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم»([35]).
وقال الحاكم أبو عبداللَّه محمد بن عبداللَّه النيسابوري: «طلب الإسناد العالي سنة صحيحة»([36]).
وقال -أيضًا-: «فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه؛ لدرس منار الإسلام، وتمكن أهل الإلحاد والبدعة منه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترًا»([37]).
قال ابن الجوزي: «أما بعد؛ فإن اللَّه -عز وجل- خص أمتنا بحفظ القرآن والعلم، وقد كان من قبلنا يقرأون كتبهم من الصحف، ولا يقدرون على الحفظ، فلما جاء عزير، فقرأ التوراة من حفظه، قالوا: هذا ابن اللَّه.
http://www.almenhaj.net/Report.php?linkid=6797