إن هذه الآية الكريمة تطرح عدة تساءلات عند كل قارئ يقف أمامها، فالكيفية التي جاء بها الذي عنده علم من الكتاب تفوق سرعة الضوء بكثير، لأنه قال: قبل أن يرتد طرفك، والمسافة في الحقيقة كنا نجهلها تماما حتى أفادنا بها الكاتب، أما سرعة الجن الذي قال: قبل أن تقوم من مقامك فربما حسب هذه المسافة التي لا تتجاوز 240 كلم. تكون سرعة الضوء.
[ولا نكتفي بدور الصوت إلى حد هنا، بل انظر كذلك قوله، سبحانه وتعالى:
*﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾، [النمل: 27 // 40 ].
ولعل هذه الآية اختلف فيها المفسرون، بين من يرى أن الذي عنده علم من الكتاب من الجن، ومن يرى أنه من الإنس، كما اختلفوا في كيفية المجيء بعرش بلقيس بتلك السرعة...
فسيدنا إبراهيم، عليه السلام، علمه الله، سبحانه وتعالى، والذي كان عنده علم من الكتاب لا يخرج هو الآخر عن هذا المفهوم، إنما طرق التعليم تختلف...
أما الكيفية التي تحول بها عرش بلقيس إلى ضوء، وجاء بسرعة لمح البصر، لأن سرعة لمح البصر تفوق سرعة الضوء. وهذا مستنبط من القرآن الكريم؛ فهناك: سرعة أقل من لمح البصر، وسرعة لمح البصر، وسرعة البُراق، وسرعة الضوء كما جاء في قوله، سبحانه وتعالى:
*﴿ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، [النحل: 16 // 77].
*﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾، [القمر: 54 // 50].
*﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾، [الإسراء: 17 // 1 ].
*﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، [البقرة: 2 // 20].
لقد صدر الأمر في لمح البصر فانقلب صورة بصرية فاستقر أمام سيدنا سليمان، عليه السلام، لأنه كان ينظر عرش بلقيس من تلك المسافة!
هناك ميثولوجية تحكي أن امرأة تدعى (زرقاء اليمامة)، كانت تعيش بقرية اليمامة، واشتهرت بقوة بصرها الذي كان يصل إلى مسافة ثلاثة أيام، وهذه المدة تعادل 240 كيلومترا تقريبا...
وهذا الذي عنده علم من الكتاب من نفس قرية زرقاء اليمامة، ونفس المسافة من قصر سيدنا سليمان، عليه السلام، إلى قصر بلقيس، من هنا يكون الذي عنده علم من الكتاب من الإنس، والنظر من هذه المسافة في مقدرة الإنسان...
والتاريخ يحكي أن اليمامة كانت بها قرية تسمى: (سدوس)، ففي هذه القرية كان قصر سيدنا سليمان، عليه السلام. وما جاء في موقع قصر سيدنا سليمان، عليه السلام، كثير، ومنه: قال إبراهيم بن إسحاق الحربي المتوفى عام 285هـ: (ثم القرية قرية بني سدوس وفيها منبر، وقصر بناه سليمان بن داود من حجر، من أوله إلى آخره).
أما سبأ فهي مأرب باليمن، انظر الصورة: 27.
فمن القرية (سدوس) باليمامة إلى مأرب (سبأ قديما) مسافة ثلاثة أيام؛ أي: 240 كيلومتر تقريبا. وبما أن " زرقاء اليمامة " امتازت بقوة البصر على بعد 240 كلم. تقريبا! فكيف لا يمكن للذي عنده علم من الكتاب؟! فهذا زاد على زرقاء اليمامة بعلم من الكتاب...
ومن هذا المنظور، كان يُبصر عرش بلقيس، فلما أمره بالمجيء، جاء مع مد البصر، فكانت السرعة هي: سرعة لمح البصر.
و هناك مسألة أخرى تتعلق بجغرافية المكان، كما جاء في قوله، جل وعلا:
*﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾، [سبأ: 34 // 18].
[وجعلنا بين بلاد سبإ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمن إلى الشام، يُرى بعضها من بعض – لتقاربها – ظاهرة لأبناء السبيل...]1.
وكذلك الحديث النبوي:{اتقوا فراسة المؤمن إنه ينظر بنور الله}، انظر الشكل: 28...
فالضوء الأصفر يمثل لمح البصر، وهو عبارة عن موجة ضوئية بصرية، وعندما تصطدم بالشيء المطلوب رؤيته بواسطة الدماغ، فإن الموجة تنعكس بالصورة المطلوبة إلى الدماغ؛ حيث الباحة الحسية تلتقط الصورة، وتحلل الباحة الترابطية المعلومات فتتخذ القرارات، ثم الباحة الحركية ترسل الأوامر...
وهذا كله كان بسرعة لمح البصر، زائد علم من الكتاب؛ لذلك قال لسيدنا سليمان، عليه السلام: قبل أن يرتد طرفك...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
1- محمد علي الصابوني: صفوة التفاسير، مج: الثاني، ص: 519
ومن وجهة أخرى، فهذا الذي عنده علم من الكتاب سمع السؤال موجها لغيره، كما جاء في قوله، سبحانه وتعالى:
*﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۞ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ۞ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾، [النمل: 27 // 38- 40 ].
فمن خلال هذه الآيات الثلاث نستنبط أن هناك زمن خطاب سيدنا سليمان، عليه السلام، للملإ، وزمن اقتراح العفريت من الجن، ولعل في هذه الفترة من الزمن تكونت عند من عنده علم من الكتاب الفكرة الإرادية بالمجيء بعرش بلقيس قبل المجيء الوجودي المحسوس به؛ وإضافة عن علم من الكتاب، كان ينظر إلى عرشها من تلك المسافة...
فإذا كانت السلحفاة تفقس بيضها بنظرة عينيها، فقد أوتيت هذه الحكمة لوحدها؛ يعني أن نظرتها عبارة عن صورة فقس البيض، أي: أن نور بصرها مصحوب بفعل عملية الفقس...]...