[بسم الله الرحمن الرحيم[center]
الإيمان بالقدر يقوم على أركان أربعة، أو أربع مراتب، تسمى مراتب القدر أو أركانه، ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن العبد بهذه الأربعة الأركان، ومن انتقص شيئاً منها اختل إيمانه بالقدر:
أولاً : علم الله الشامل القديم .
ثانياً : كتابة ذلك في اللوح المحفوظ .
ثالثاً : مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة .
رابعاً : خلقه سبحانه لكل ما في الوجود .
أولاً : مرتبة العلم :
وهي الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً وأبدًا، سواء ما كان يتعلق بأفعاله سبحانه، أو بأفعال عباده، فعلمه محيط بكل شيء ، ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما قال سبحانه: ( ولو رُدُّوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون ) (الأنعام : 28 ) ، وقال تعالى : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) ( الأنعام : 111 ) ، وقال: ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( الأنفال :23 ) ، فهو سبحانه خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارًا وضرب لهم آجالاً، وعلم ماهم عاملون قبل أن يخلقهم، فهو تبارك وتعالى عالم بالعباد وآجالهم، وأرزاقهم وأحوالهم، وحركاتهم وسكناتهم، وشقوتهم وسعادتهم، وأهل الجنة وأهل النار وهذا مقتضى كونه عليماً خبيراً سميعاً بصيراً.
وهذه المرتبة - وهي العلم السابق - اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها جميع الصحابة، ومن تبعهم من هذه الأمة، وخالفهم مجوس هذه الأمة - القدرية الغلاة - (انظر شفاء العليل ص 61 ) .
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جدًا ، منها قوله تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالمُ الغيب والشهَّادة ) ( الحشر : 22 ) ، وقوله : ( يَعْلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ) ( البقرة: 255 ) ، وقوله : ( عالم الغيب لا يعْزبُ عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) ( سبأ : 3 ) ، وقوله: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( الأنعام : 124 ) ، وقوله ، وقوله ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( القلم : 7 ) ، وقوله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هُو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقُط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظُلُمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) (الأنعام : 59 ) ، وقوله : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ) ( التوبة : 47 ) .
ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن : علمه بما كان الأطفال الذين توفوا صغارًا عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم .
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ، فقال : ا لله أعلم بما كانوا عاملين " .
وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت : توفي صبي ، فقلت : طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أولا تدرين أن الله خلق الجنة والنار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلا ] وفي رواية عند مسلم أيضًا عن عائشة قالت: [ دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ] .
وهذه الأحاديث تتحدث عن علم الله في من مات صغيراً، لا أن هؤلاء يدخلهم الله النار بعلمه فيهم من غير أن يعملوا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم في أبناء المشركين: " الله أعلم بما كانوا عاملين " أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديثٍ إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة ، ومن عصاه أدخله النار ] فهناك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم ، وهو إيمانهم وكفرهم ، لا على مجرد العلم "
الأدلة العقلية على أن الله علم مقادير الخلائق قبل خلقهم :
وأيضًا فإن " المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها ، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم ] .
واستدل العلماء على علمه تبارك وتعالى بقياس الأولى: " فالمخلوقات فيها ما هو عالم، والعلم صفة كمال ، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالمًا ". والاستدلال بهذا الدليل له صيغتان:
" أحدهما : أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق وأن الواجب أكمل من الممكن ، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين :
أحدهما عالم والآخر غير عالم ، كان العالم أكمل ، فلو لم يكن الخالق عالمًا لزم أن يكون الممكن أكمل منه ، وهو ممتنع .
الثاني : كل علم في المخوقات فهو من عند الله تبارك وتعالى ، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريًا منه ، بل هو أحق به ذلك أن كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به ، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزه الخالق عنه أولى " .
وكل هذا الأدلة يمكنك أن تلمحها في قوله تعالى: ( ألا يعلم من خالق وهو اللطيف الخبير) (الملك : 14 )
ويُستدل على علمه - تبارك وتعالى - بإخباره بالأشياء والأحداث قبل وقوعها وحدوثها، فقد أخبر الحق في كتبه السابقة عن بعثة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وصفاته، وأخلاقه وعلاماته، كما أخبر عن الكثير من صفات أمته، وأخبر في محكم كتابه أن الروم سينتصرون في بضع سنين على الفرس المجوس، ووقع الأمر كما أخبر، والإخبار عن المغيبات المستقلبلية كثير في الكتاب والسنة.
ثانيًا مرتبة الكتابة :
وهي الإيمان بأن الله سبحانه كتب في اللوح المحفوظ ما سبق به علمه ، فكل ما كان و ما هو كائن، من بداية الخلق، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مسطور في هذا الكتاب، والذي يسمى باللوح المحفوظ، وأم الكتاب، والكتاب المبين، والإمام المبين، كما دلت على ذلك الآيات البينات، والأحاديث المباركات .
قال سبحانه : ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) ( يس : 36 ) ، وقال : ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) ( الحج : 70 ) ، وقال: ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ( الزخرف : 4 ) .
وروى الإمام الترمذي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن اول ما خلق الله القلم ، فقال اكتب ، قال : وما اكتب ؟ قال : اكتب القدر ، ما كان ، وما هو كأئن إلى الأبد " حسنه الألباني .
وعن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء ] ( رواه مسلم )
وفي رواية الترمذي قال : [ قدر الله المقادير قبل أ ن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ] ( قال الترمذي حديث صحيح ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : [ ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، إلا وقد كتبت شقيه أو سعيده ] ( رواه البخاري ومسلم ) .
والأحاديث والآيات في ذلك كثيرة مشهورة تجل عن الوصف والذكر .
الركن الثالث : الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة :
وهذا الأصل يقضي بالإيمان بمشيئة الله النافذة ، وقدرته الشاملة ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا حركة ولا سكون في السموات ولا في الأرض إلا بمشيئته ، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد .
والنصوص المصرحة بهذا الأصل المقررة له كثيرة وافرة ، قال تعالى : ( ومَا تشاءُون إلا أن يَشاءَ الله ) ، وقال : ( ولَو أنّنا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهُمُ الموتى وحَشَرْنا عَليهم كُلَّ شيءٍ قُبُلاً ما كانوا ليُؤمِنُوا إلا أن يشاء الله ) ، وقال : ( ولو شاء ربُّك ما فَعَلُوهُ ) ، وقال : ( إنما أمرُهُ إذا أراد شيئًا أن يقول لهُ كن فيكُون )، وقال ( من يشأ الله يُضللهُ ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) .
ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون ، ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن .
فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة ، وما لم يشأ الله تعالى إياه لا يكون لعدم مشيئتة تعالى ليس لعدم قدرته عليه ، قال تعالى : ( وَلو شاء اللهُ ما اقتتلُوا ولكن الله يفعل ما يريد ) ، وقال : ( ولو شاء اللهُ لجَعَلكمُ أمةً واحدةً ) ، وقال : ( ولو شاء اللهُ لَجَمَعَهم على الهُدى ) ، وقال : ( وَلو شاء اللهُ ما أشركوا ) ، وقال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرضِ كلهم جميعا ً) ، وقال : ( ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لَجَعله ساكنًا ) ، والآيات في هذا كثيرة تدل على عدم وجود ما لم يشأ وجوده لعدم مشيئته ذلك ، لا لعدم قدرته عليه ، فإنه على كل شيء قدير تبارك وتعالى .
رابعًا : الإيمان بأن الله خلق كل شيء :
وهذا الركن يقتضي الإيمان بأن جميع المخلوقات إنماهي من صنع الله وحده ، وأنها مخلوقة بأمره سبحانه ، وأنه هو الذي خلقها وكونها وأوجدها بذواتها ، وصفاتها ، وحركاتها ، وسكناتها .. فكل ما سوى الرب تعالى مخلوق مُوجد من العدم ، كائن بعد أن لم يكن .
وقد دلت على ذلك نصوص الوحيين الشريفين :
قال تعالى : ( الله خالق كل شيء ) ( الزمر : 62 ) ، وقال : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ) ( الأنعام : 1 ) ، وقال : ( الذي خلق والموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) ( الملك 2 ) وقال: ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) ( الرعد : 16 ) .