الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ لازلنا مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ومع الدرس التاسع والعشرين ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى آدابه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء .
كان صلى الله عليه وسلَّم يرفع يديه في الدعاء حذو منكبيه ، وقد جاء ذلك في كثيرٍ من أدعيته ، دعا بها في مناسباتٍ عديدة ، قال الإمام القسطلاَّني : " وقد جمع النووي في شرح المهذَّب نحواً من ثلاثين حديثاً في رفع يديه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء " . إذاً أول أدب من آداب الدعاء أن يرفع الإنسان يديه حذو منكبيه .
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام ـ دقِّقوا ـ : ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " سلمان الفارسي " )
إذاً ادعوا الله عباد الرحمن .. ((من لا يدعني أغضب عليه)) .
((إن اللّه يحبّ الملحّين في الدعاء)) .
( من الأذكار النووية : عن " ابن عمر " )
((الدعاء سلاح المؤمن)) .
( من الجامع الصغير : عن " علي " )
((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " أنس بن مالك " )
((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " سلمان الفارسي " )
وكان صلى الله عليه وسلَّم يدعو مشيراً بباطن كفَّيه نحو السماء تارةً ، إذا كان الدعاء بنحو تحصيل شيء : " اللهمَّ ارزقنا طيباً ، واستعملنا صالحاً " ، أكرِّر : وكان صلى الله عليه وسلَّم يدعو مشيراً بباطن كفيه نحو السماء تارةً ، إذا كان الدعاء بنحو تحصيل شيء ، وبظاهرهما إلى السماء تارةً ، إذا دعا بنحو دفع البلاء ، باطن اليدين نحو الأرض ، وفي طلب الرحمة باطن اليدين نحو السماء ، واليدين حذو المنكبين .
وأنت بالدعاء أقوى إنسان في الأرض ؛ لأنك مع القوي ، لأنك مع الغني ، لأنك مع العليم، لأنك مع القدير ، لأنك مع السميع ، لأنك مع البصير ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فادع الله عزَّ وجل .
قال الإمام النووي : " السنة في كل دعاءٍ لدفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفَّيه إلى السماء ، وإذا دعا بسؤال شيءٍ وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء " . الأدب مطلوب .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)) .
(متفق عليه)
من شدة لهفته .
وهنا يطالعنا سؤال هام : لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم يدعو قبيل معركة بدر بلهفةٍ شديدة حتى سقط رداؤه ؟ الحقيقة ما من أحدٍ على وجه الأرض أوثق من النبي بالنصر منه ، إلا أنه كان يخاف أن يكون هناك تقصيرٌ في الأخذ بالأسباب ، تقصيرٌ في إعداد العُدة ، لأن الله عزَّ وجل قال :
( سورة الأنفال : من آية " 60 " )
أيها الإخوة الكرام ؛ الإنسان مهما كان متوكلاً على الله فعليه أن يستجمع الأسباب وكأنها كل شيء ، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، فالتطرف سهل دائمًا ، أن تستسلم إلى الله عزَّ وجل من دون أن تأخذ بالأسباب قضية سهلة ، يقول لك : هذا كله بسبب سيدك ، لا يفعل شيئاً ، لا يتخذ احتياطاً ، لا يعد عدةً ، لا يأخذ بالأسباب ، لا يدرس ، لا يختار البضاعة الجيدة ، ويقول : أنا متوكِّل .
فسيدنا عمر سأل بعض الناس : " من أنتم ؟ " ، قالوا : " نحن المتوكلون " . فقال هذا الصحابيٌ الجليل : " كذبتم المتوكل من ألقى حبةً في الأرض ثم توكَّل على الله " .
مشكلة المسلمين اليوم إما أنهم تركوا الأسباب عاصين ، أو اتخذوها مشركين ، إما أن يتخذ الأسباب ويعتمد عليها ، فقد وقع في الشرك ، وإما ألا يأخذ بالأسباب فقد وقع في المعصية ، لكن البطولة أن تأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء في النجاح ، وأن تعتمد على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا هو الموقف ، نحن في طريقٍ عن يمينه وادي الشرك وعن يساره وادي المعصية ، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها وقعت في وادي الشرك ، إن لم تأخذ بها وقعت في وادي المعصية ، من أجل أن تكون مؤمناً كاملاً عليك أن تأخذ بها وتعتمد على الله عزَّ وجل .
أذكر مرَّةً أن النبي صلى الله عليه وسلَّم حكم بين رجلين ، الذي حكم عليه قال حينما خرج: " حسبي الله ونعم الوكيل " ، هذه كلمة حق لكن أريد بها باطل ، فقال له النبي ـ الآن دققوا ، والله هذا الحديث يحل مشكلات المسلمين في العالَم ـ قال : ((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) .
( من سنن أبي داود : عن " عوف بن مالك " )
أنت بادئ ذي بدء عليك أن تأخذ بالأسباب ، عليك بالكيس ؛ أن تدبِّر، أن تفكر ، أن تخطط ، أن تسعى ، أن تسأل ، أن تكتب ، أن تعترض ، أن توسِّط . كل هذا من قضاء الله وقدره ، قال له : ((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ)) ، إذا خطَّطتَ ، ودبرت ، وتوسَّطت ، وسألت ، وكتبت ، واعترضت ، وشكوت ، وبعد كل هذا لم تُفلح ، هذه مشيئة الله ، إذاً حسبي الله ونعم الوكيل ، متى يمكن أن تقول : حسبي الله ونعم الوكيل ؟ بعد أن تستنفذ الأسباب ، والله جلَّ جلاله لا يقبل منك أن تقول : حسبي الله ونعم والوكيل قبل أن تأخذ بالأسباب .
فأوضح مثل لهذا طالب قصَّر ولم يدرس ، فلما رسب قال : هكذا يريد الله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، هذا كلام دجل ، هذه كلمة حق أريد بها باطل ، لا تُقبَل منك كلمة حسبي الله ونعم الوكيل قبل أن تأخذ بالأسباب ، وقبل أن تستنفذ الأسباب ، وقبل أن تفعل كل شيءٍ في إمكانك ، لذلك فالله عزَّ وجل قال :
( سورة الأنفال : من آية " 60 " )
المسلم الذي لم يفهم بُعْدَ هذه الآية يظن أن على المسلمين أن يعدُّوا القوة المكافئة ؛ وهذا الآن ليس في مقدورهم ، وفوق طاقتهم ، هناك مسافاتٌ كبيرة جداً بين قِوى المسلمين وبين قوى أعدائهم ، فإذا أمرهم الله عزَّ وجل أن يعدوا القوة المكافئة ، فهذا طلب تعجيزي مستحيل ، لكن الله عزَّ وجل أمرهم أن يعدوا القوة المتاحة وليست المكافئة ..
( سورة الأنفال : من آية " 60 " )
هذه النقطة التي أظنها سبب تخلُّف المسلمين ؛ توكُّل ساذج ، والأصح تواكل ، دعاء بلا أخذ بالأسباب ، نبيٌ كريم معه رسالة ، معه وحي ، معه معجزات ، ظل يدعو في بدر حتى وقع رداءه ، إلى أن قال له سيدنا الصديق : " يا رسول الله بعض مناشدتك ربك إن الله ناصرك " ، لماذا كان يدعو بلهفة ؟ يخاف أن يكون هناك تقصيرٌ في الأخذ بالأسباب .
لذلك فالمؤمن الصادق يستجمع كل الوسائل ، وكل الأسباب ، ولا يعتمد عليها ، إذا استطعت أن تكون في هذا المستوى فقد أفلحت ورب الكعبة ، ادرس الأمر ، فلو أنّ إنسانًا توقَّفت مركبته في الطريق ، ثم نزل من المركبة : يا رب أنقذنا ، واكتفى بالدعاء ، فلن يصل إلى نتيجة ، ولكن افتح غطاء المحرِّك ، وابحث عن السبب المادي أولاً ، واطلب من الله التوفيق، فالحركة نحو تحقيق الهدف بالوسائل الواقعية هو الأمرُ المطلوب.
لذلك قالوا : الإسلام واقعي ، ما معنى واقعي ؟ أي أنه يحل المشكلات بطريقةٍ واقعيَّة ، هو لا يقبل الواقع السيئ ، لا يقرُّه أبداً ، يرفضه، لكن ذا أراد حل مشكلةٍ يحلها بطريقةٍ واقعية ، وهذه الواقعيَّة هي التي رفعت من شأن الإسلام .
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رفع يديه في الدعاء لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه .
وروى أبو داود عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ)) .
وقال العلامة المناوي : " ذلك عند فراغه من الدعاء تفاؤلاً وتيمناً بأن كفيه مُلئا خيراً فأفاض منهما على وجهه فيتأكد ذلك للداعي " .
( ذكره الحُليمي )
أي من آداب الدعاء أن تمسح وجهك بيديك ، وكأن يديك مُلئتا خيراً ، هذه أشياء رمزيَّة ، فبعض الناس يظن أنّه ليس في الإسلام أشياء رمزيَّة ، وحياتنا كلها واقعيَّة ، نحن (المسلمين) في عندنا ألف رمز ورمز ، نأتي بقماش : لونٌ كذا ، ولونٌ كذا ، ولونٌ كذا ، مصنوع في اليابان ، هذه الألوان الثلاثة ترمز إلى الوطن وتؤلِّف علَم البلاد ، لذلك نحيِّيه ، ونقف أمامه باستعداد ، ونعاقب من يهين هذه الراية ، هي رمز للوطن ، فالإنسان عندما يدعو ، ورفع يديه ، فهذا رمز التأدب ، رمز التذلل والخضوع إلى الله عزَّ وجل .
وكان عليه الصلاة والسلام يستقبل القبلة في دعائه . الأكمل أن تتجه نحو القبلة ، لذلك الحُجَّاج والعُمَّار وهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، إما أن يقفوا باتجاه الحجرة الشريفة، يبلِّغونه أنه أدى الأمانة ، وبلَّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغُمَّة ، وجاهد في الله حق الجهاد ، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد . وإما أن يتجهوا نحو القبلة فيدعون ربهم جلَّ جلاله، إذاً من السُنَّة أن يستقبل الرجل القبلة في دعائه .
ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً فَسُرِّيَ عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ)) .
هذا دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ((... وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا)) .
وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلَّم القبلة يوم بدرٍ ودعا الله تعالى -لازلنا في آداب الدعاء ، نحن مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم -والدعاء مخُّ العبادة ، بل الدعاء هو العبادة، لماذا ؟ لأنك حينما تدعو الله عزَّ وجل تكون في أعلى درجات القُرب ، وتكون في أشد حالات الإخلاص ، وفي أشد الضرورة إلى الله عزَّ وجل ، إذًا ضرورة ، وقرب ، وإخلاص ، ومِن هنا كان : ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)).
( من سنن الترمذي : عن " أنس بن مالك " )
وكان صلى الله عليه وسلَّم يرشد الداعي إلى أن يفتتح دعاءه بالثناء على الله عزَّ وجل ، هل عندكم شاهد من كتاب الله أن الثناء على الله دعاء ؟ نعم .
ثم قال الله عزَّ وجل :
( سورة الأنبياء : من آية " 88 " )
معنى هذا أنّ سيدنا يونس كان يدعو ، فالثناء دعاء عند الله عزَّ وجل ، أنت أحياناً ألا تستعطف إنسانًا قويًّا وابنُك بيده ، تقول له : أنت رحيم ، ما معنى أنت رحيم ؟ أي ارحمه ، أنت عظيم ، أنت كريم ، فالثناء دعاء أيها الإخوة ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يفتتح دعاءه بالثناء على الله تعالى ، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم .
تصور نفسك داخلاً على إنسان عظيم وهو لا يعرفك ، لكنك دخلت بمعية أقرب الناس إليه ، وأحب الناس إلى قلبه ، أنت بمعية هذا الصديق الحميم ، فحكمة البدء بالثناء على الله تعالى ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم هو أنك استشفعت به في الدخول على الله عزَّ وجل .
روى الإمام الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)) .
لي تعليقٌ صغير ؛ مرَّةً ذكرت في درس التفسير صلحَ الحديبية ، فحينما بايع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ، بايعوا رسولهم على البذل والتضحية في سبيل الله ، بعد أن كان عثمان عند قريش موفداً من قِبل النبي ، وقد أشيع أنه قد قُتِل ، وقد بايع أصحاب النبي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بيعة الرضوان ، التي قال الله عنها :
( سورة الفتح : من آية " 18 " )
الذي لفت نظري أن النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد أن فرغ من أخذ البَيْعَةِ من أصحابه الكرام أمسك يداً بيد وقال : ((إِنَّ عُثْمَانَ- الغائب - فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " أنس بن مالك " )
نحن لنا حاجات عند الله ، لكن الله ما حاجته ؟ هنا السؤال ، هذا الشيء ورد بالسُنَّة ، أنت لك ألف حاجة وحاجة ؛ تريد زوجة صالحة ، تريد رزقًا حلالاً ، تريد بيتًا ، تريد إيمانًا ، تريد إقبالاً ، تريد اتصالاً بالله ، لك عند الله ألف حاجةٍ وحاجة ، لكن الله ما حاجته ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ)) .
فهل لله حاجة ؟ النبي الكريم قرَّب إلينا شيئاً من كمال الله عزَّ وجل ، كأن هداية خلقه هي حاجة الله عزَّ وجل ، كأن نشر الهدى هي حاجة الله عزَّ وجل ، أيْ إذا شرَّف الله شخصًا وسمح له أنْ ينطق بالحق ، ويكون جنديًا في خدمة الحق فهو ساعٍ في حاجة الله ، في حاجة الله لأن الله سبحانه وتعالى خلق عباده ليرحمهم ، خلق عباده ليهديهم ، خلق عباده ليسعدهم ، فمن ساهم في إسعادهم ، وفي هدايتهم ، وفي تعريفهم بربهم ، وفي حملهم على طاعة الله عزَّ وجل فهو ساعٍ في حاجة الله وحاجة رسوله ، هل هناك من حرفةٍ أشرف عند الله ، وأعظم عند الله من أن تكون جندياً ساعيًا وعاملاً في حاجة الله عزَّ وجل وحاجة رسوله ؟
( سورة هود : من آية " 119 " )
طبعاً فالحديث التالي أصل في الدعاء ، قال الإمام الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)) .
ثم دقق النظر بين التوحيد وبين الأسماء الحسنى تجد بينهما علاقةً وشيجةً ، أحياناً لك مشكلة في دائرة ، وتقول : الأمر بيد مَن في هذه الدائرة ؟ لديَّ مشكلة ومعاملة ، الأمر بيد مَن ؟ يقال لك: بيد فلان ، فلان كيف أخلاقه ؟ منصف ، يحب الخير ؟ أنت يهمك شيئان : أن يكون الأمر بيد إنسان كريم ، إنسان حليم ، إنسان عادل ، إنسان قوي ، إنسان غني .
المعنى أقرِّبه لكم أيها الإخوة الكرام ؛ فالنبي الكريم يقول : ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - الأمر بيد الله- الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ)) ، ماذا نفهم من هذا الدعاء موجبات رحمتك ؟ في منتهى الأدب .
لو أن النبي قال : اللهمَّ إني أسألك رحمتك ، فهذا شأنُه كمَن قدّم طلبًا إلى الجامعة الفلانيَّة يرجى منحي دكتوراه ، التوقيع فلان ، ولصق الطابع ، فتصرُّفه في منتهى الوقاحة ، ماذا قدَّمت لتنال هذه الشهادة ؟ أين علاماتك ؟ أين شهاداتك السابقة ؟ أين أطروحتك ؟ أين الإجازة ؟ فالنبي الكريم ما سأل رحمة الله وحدها بل سأل موجبات الرحمة .
يا رسول الله ادع الله أن أكون معك في الجنة فقال عليه الصلاة والسلام Sad(فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)) .
( من صحيح مسلم : عن " ربيعة بن كعب " )
إذاً النبي الكريم قال : ((أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)) .
إذاً الأدب في الدعاء أن تفتتحه بالثناء على الله عزَّ وجل ، ثم تُثَنِّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم .
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ : ((مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إِلَّا اسْتَفْتَحَهُ بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى الْعَلِيِّ الْوَهَّابِ)) .
(أحمد)
ومن آداب الدعاء التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلَّم ، الصلاة عليه أول الدعاء ، وأوسطه ، وآخره ، واللهُ عزَّ وجل يقول :
( سورة الأعراف )
فمن دعا بصوتٍ عالٍ فقد اعتدى على الخُفية ، ومن دعا باستكبارٍ وعدم افتقارٍ فقد اعتدى على التضرُّع ، ومن كان معتدياً فالله سبحانه وتعالى لا يستجيب له لأنه لا يحبه ، وهناك من قال: من أطال الدعاء فقد اعتدى ، أحياناً الدعاء ثلاثة أرباع الساعة ، نصف ساعة ، الناس يضجرون ويغفلون ، فمرةً غفل أحدهم فأيقَظَوه ، وقالوا له : أين وصل الشيخ بالدعاء ؟ إطالة الدعاء عدوان ، وعدم التضرُّع عدوان ، ورفع الصوت عدوان ، وأن تكون معتدياً على خلق الله هذا عدوان ، وهذا يمنع استجابة الدعاء .
وعن عليٍ رضي الله عنه قال : " كل دعاءٍ محجوبٌ حتى يُصلى على محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم " .
لذلك فأنتم حينما تستمعون إلى أدعيةٍ مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، أو عن الصحابة والتابعين تجدونها مصدَّرةً بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ومختتمةً بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلَّم .
وروى الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : ((إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .
الحقيقة أنّ الناس ابتدَعوا صلاةً فارغةً لا تعني شيئاً ، يقول لك أحدُهم : صلِّ على النبي ، زده صلاة . وهو يكذب ، ويغش ، ويحتال ، هذه الصلوات التي أمرنا بها حينما فُرِّغت من مضمونها ، أو حينما خالطها العمل السيِّئ فقدت عند الناس قيمتها ، أما في الأصل حينما تصلي على النبي ، يعني أنك متمثلٌ بهذا النبي العظيم ، مقتدٍ به ، مستمسك بسنته ، متابعٌ له في أقواله وأفعاله .
أيها الإخوة الكرام ؛ ومن آداب الدعاء الإلحاح فيه ، فقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا)).
فالإنسان إذا دعا ، والدعاء لاقى رغبةً في نفسه ، ومسَّ الدعاءُ أوتارَ قلبه ، لِيُعِدْ هذا الدعاء ثلاثاً ، فهذا من السنة .
سؤال : ورد في القرآن الكريم :
( سورة المعارج )
كيف دائم ؟ أمَا لهذا الداعي عمل ؟ أما له وظيفة ؟ ألا يتاجر ؟ ألا يبيع ؟ ألا يشتري ؟ ألا يذهب إلى عمله ؟ ألا يطبِّب ؟ ألا يُرافع ؟ كيف على صلاتهم دائمون ؟ ففي الصلوات الخمس ، قال تعالى :
( سورة المؤمنون )
فهذه واضحة ، أما على صلواتهم دائمون !! قالوا : المقصود هنا الدعاء ، في الطريق تدعو ، قبل أن تدخل إلى مكتبك تدعو ، قبل أن تدخل بيتك تدعو ، قبل أن تخرج من بيتك تدعو.
قبل أن تدخل المسجد : ((اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ)) ، تدعو .
( عن صحيح مسلم : عن " أبي أسيد " )
قبل أن تخرج منه : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)) ، تدعو .
قبل أن تخرج من بيتك : ((اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ)) .
( من سنن أبي داود : عن " أبي سلمة " )
قبل أن تركب مركبتك : ((اللهمَّ إني أسألك خيرها وخير ما صُنعت له ، وأعوذ بك من شرها وشر ما صنعت له)) .
دعاء قبل الركوب ، وبعد النزول ، وقبل السفر : ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " أبي هريرة " )
فهل هناك جهة في الكون يمكن أن تكون في آنٍ واحد معك في السفر ومع أهلك في الحضر؟ مستحيل ، إلا الله عزَّ وجل ، إذًا لك دعاء السفر ، دعاء الحضر ، دعاء الطعام ، دعاء الزيارة ، دعاء دخول البيت والخروج منه ، دخول المسجد والخروج منه ، حتى إذا خرج مِن دورة المياه : ((الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ ، وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ ، وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاه)) .
( من الأذكار النووية : عن " ابن عمر " )
إذاً على صلاتهم دائمون بالأدعية ، فالمؤمن يحب الله عزَّ وجل ، علامة حبه له كثرة الدعاء ، فأنت تخاطب من ؟ تخاطب سميعًا ، تخاطب قديرًا ، تخاطب رحيمًا ، فأن يستجيب اللهُ لك شيء يقيني قطعي .
روي عنه صلى الله عليه وسلَّم أنه قال : ((إن اللّه يحبّ الملحّين في الدعاء)).
( من الأذكار النووية : عن " ابن عمر " )
الآن دخلنا في المنطقة الحرجة ، في المنطقة الخطيرة في الدعاء ، قلنا : رفع اليدين حذاء المنكبين ، فعند سؤالِ الرحمة باطنهما إلى السماء، وعند سؤالٍ لدفع البلاء باطنهما إلى الأرض ، مسح الوجه باليدين ، الإلحاح بالدعاء ، الثناء على الله عزَّ وجل ، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم ..
أما مجال المنطقة الحرجة فبسطُه في الفقرات التالية ؛ قالوا : ومن مطالب الدعاء التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلَّم لتحصيل الإجابة ، تطييب المأكل والمشرب والملبس ، وذلك بأن يكون حلالاً .
هذا أخطر شيء ، والآن دخلنا بالمهنة ، بالوظيفة ، بالصناعة ، بالزراعة ، بالتجارة ، بالبيع ، بالشراء ، بكسب المال ، بالمرافعة أمام القضاة ، بمعالجة المرضى ، أنت طبيب ، والمريض مستسلم لك ، مِن الممكن أنْ تكلفه بعشرة تحاليل أو بتحليل واحد ، قد يكون عندك يقين أنه لا يحتاج إلى تخطيط ، والتخطيط يكلِّف خمسمئة ليرة ، والإيكو ألف ليرة ، والمرنان خمسة آلاف ، يمكن أنْ تكلِّفه بتحاليل وصور هو ليس بحاجة إليها ، مَن يعلم ؟ الله وحده يعلم ، فإذا صار في الأمر ابتزاز ، وإيهام ، وتوجيه نحو كسب مال غير مشروع ، طبيب ، محام ، مهندس ، مدرس أحياناً يضع للطالب علامات قليلة لكي تكثر الدروس الخاصة ، كذلك ، بضاعة مستوردة من جهة ، أوهمتَ أنّها من جهة ثانية ، وضعتَ لها وصفًا كاذبًا ، الآن دخلنا في صميم الدرس ، فدعاؤك متعلِّق بكسب مالك وطيب مطعمك ((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) .
( من مجمَّع الزوائد : عن " ابن عبَّاس " )
فالاستجابة تستوجب الاستقامة ، وعندك في الاستقامة شيئان أساسيان ؛ استقامتك في كسب المال ، واستقامتك في الشهوات ، أي أن موضوع علاقتك بالمرأة ، وعلاقتك بالدرهم والدينار ، هذان الموضوعان يستقطبان تسعين بالمئة من الأحكام الشرعيَّة ، علاقتك بكسب المال وعلاقتك بالنساء .
اسمعوا هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)) .
الآن دخلنا في صميم الدين ؛ عندك صناعة غذائية يأكلها أطفال المسلمين ، بإمكانك أنْ تضع مواد منتهية المفعول ، أخذتها بنصف قيمتها ، فمن يدري ؟ بإمكانك تضع مواد كيماويَّة أرخص بكثير ، بإمكانك أنْ تضع أشياء ترفع السعر لكن تخفِّض القيمة الغذائيَّة ، ولا أحد يعلم إلا الله ، فاحذَرْ ثم احذر .
أكرِّر ؛ الآن دخلنا في صميم الدين ، فعندما يكون كسبك حلالاً ، أي فيه نصيحة ، ليس فيه غش ، ولا كذب ، ولا تدليس ، ولا ابتزاز ، ولا احتكار ، ولا استغلال ، ولا إيهام ، ولا احتيال ، إذا كان كسبك حلالاً معناه أن مالك حلال ، معناه أن طعامك حلال ، معناه طعامك طيب.. ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) .
( من مجمَّع الزوائد : عن " ابن عبَّاس " )
هذا هو الدين .
الآن قد وضِعتَ اليد على جوهر الدين ، قال عبد الله بن عمر للراعي : " بعني هذه الشاة وخذ ثمنها " ، قال الراعي : " ليست لي " ، قال : " قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب " ، قال : "ليست لي " ، قال : " خذ ثمنها " ، قال : " والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ولكن أين الله ؟ " ، هذا الأعرابي البدوي الراعي وضع يده على جوهر الدين ، ولو كنتَ تحمل أعلى شهادة اختصاصيَّة في الدين ، وتأكل المال الحرام ، غابت عنك حقيقة الدين ..
((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) .
( من مجمَّع الزوائد : عن " ابن عبَّاس " )
الدين بالمعمل ، بالعيادة ، بالمكتب الهندسي ، بقاعة التدريس ، الدين بدكَّانك ، الدين بوظيفتك ، الدين بكل حالاتك وظروفك ، شيء لا يصدق ، لو طبَّق الناس الدين كما أراد الله لدخل الناس في دين الله أفواجاً ، لو طبق الناس الدين كما أراد الله لن يُغلب من أمتي اثنا عشر ألفًا من قلَّة ، اثنا عشرَ ألف من قلَّة لن يُغلبوا ، لكنَّ مليارًا ومئتي مليون كلمتهم ليست هي العليا .. ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)).
( من مجمَّع الزوائد : عن " ابن عبَّاس " )
الدين بتجارتك .. ((ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجَّةً بعد الإسلام)).
الدين صدق ، وقد قلت مرَّةً : والله ، إنّ الطبيب المسلم لا يوصَّى ، كيف يوصَّى ؟ أمامه عبدٌ من عباد الله ، والله يراقبه ، كيف يوصَّى ؟
إخواننا الكرام ؛ الشيء ليس بالمظهر بل بالمخبر ، عندما تمتنع عن أكل الحرام ، حينما تخلص للناس ، تصدق معهم ، لا توهمهم ، لا تبتزُّ أموالهم ، لا تدلِّس ، عندئذٍ أنت دَيِّن ودعاؤك مستجاب .
من آداب الدعاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أرشد المؤمنين إلى عدم الاستعجال في القول : دعوتُ ولم يُستجب لي .
والله دعيت ولم يستجب لي الله هذا منهي عنه ، بأن يقول : دعوت ربي ولم يستجب لي ، فإن ذلك يبعد الإجابة ، لما ورد في الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((قَالَ يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)) .
دعوت ربي فلم يستجب لي ، إياك أن تقول هذا ..
( سورة آل عمران )
الله عزَّ وجل يختار لك الخير ، والخير لا تعلمه أنت ، ولا تعلم أين هو .
وقد روى الإمام أحمد وأبو يعلى عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قَالُوا وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي)).
موضوعات دقيقة ومهمَّة ، الدعاء هو العبادة ، و .. ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) .
( من سنن الترمذي : عن " أنس بن مالك " )
فأقرب حالةٍ إلى الله تكون فيها حينما تدعو الله عزَّ وجل ، فأحياناً يكون لدى الإنسان مرض خطير - لا سمح الله - مرض عضال ، أَيُعقَل أنْ يشفيه الله منه ؟ نعم هذا معقول ، وآيات الله ظاهرة ، كان عليه الصلاة والسلام يرشد الداعي إلى العزم والجزم بوقوع مطلوبه ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ - أيْ إذا أحببت - اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ)) .
وفي رواية البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهُ لَهُ)) .
اللهمَّ ارزقني ، اللهم وفقني ، اللهم ارزقني طيباً ، واستعملني صالحاً ، دون قولك "إن شئت"، و"إذا أردت" ، لأن الله عزَّ وجل لا مُكره له ، أنت مع إنسان تقول له ربما يكون في الأمر إحراج لك ، ربما يكون عليك ضغط ، ربما لا تستطيع ، لعلي كلفتك ما لا تطيق ، فهذا الكلام صحيح لأن الإنسان هكذا شأنه ، أما خالق الأكوان ليس هذا شأنه ، فهو يعطي فيدهش ، فهذه : "إن شئت" ، "إن أردت" ، "إن سمحت" لا تقلها في دعائك ، اعزم المسألة ، واجزم المسألة.
قال بعض العلماء : " ومعنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة فإنه يدعو كريماً " .
ألفت النظر إلى نقطة دقيقة ، أحياناً يقع تقصير في أداء الواجبات الدينية ، أخطاء سابقة ، ذنوب ، فهل هذه الذنوب ، وتلك التقصيرات تحول بينك وبين الدعاء ؟ الجواب : لا ، لا ينبغي أن تحول .
قال ابن عيينة : " لا يمنعن أحدكم الدعاء ما يعلم من نفسه ـ أي إذا كان يعلم من نفسه تقصيرًا ، أو ذنوبًا فلا ينبغي أن تمنعه هذه المعرفة من الدعاء ـ فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال :
( سورة الأعراف )
فالمضطر يدعو بأي وضع ، والله عزَّ وجل يقبله .
وكان عليه الصلاة والسلام يُرشد الداعي إلى ختم دعائه بالتأمين لتحصيل الإجابة .
روى أبو داود عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ : ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ قَالَ بِآمِينَ فَإِنَّهُ إِنْ خَتَمَ بِآمِينَ فَقَدْ أَوْجَبَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى الرَّجُلَ فَقَالَ اخْتِمْ يَا فُلَانُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ))
فهذا الرجل بأي شيءٍ يختمه ؟ أوجب أي أن الاستجابة حصلت ذا ختم الدعاء ، فقال رجل : ((بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ)) ؟ فقال Sad(بِآمينَ)) .
وآمين كما تعلمون اسم فعل أمر بمعنى استجب يا رب ، عند قراءة الفاتحة نقول : آمين ، بعد "ولا الضالين" آمين ، لأنّ فيها دعاء وثناء .
وروى الحاكم عن حبيب بن سلمة الفهري ـ وكان مجاب الدعوة ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : ((لا يجتمع ملأٌ ـ أي جماعةٌ ـ فيدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى)) .
وثمَّةَ دليل قرآني ؟ سيدنا موسى دعا ربه ، وإلى جانبه هارون عليه السلام ، فقال الله عزَّ وجل :
( سورة يونس : من آية " 89 " )
الداعي واحد ، والثاني قال : آمين ، فصار داعيًا ، فكل إنسان قال : آمين صار داعيًا .
لو أنّ شخصًا سألك سؤالاً ، طلب منك حاجة ، وهو ملتفت عنك ، يتسلى بمسبحة ، يقرأ مجلة ، وقال لك : أعطني الحاجة الفلانية ، فهل تستجيب له ؟ الداعي إذا كان غافلاً عن المدعو لا يستجاب له .
وفي الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ - دققوا الآن - لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)) .
الدعاء بقلب غافل لا يستجاب ، الدعاء يجب أنْ يكون بقلب خاشع ، وقلب حاضر ، وقلب شاهد ، بقلبٍ شاهدٍ حاضرٍ خاشع ، عندئذٍ يستجاب ، أمالا دعاء مع الغفلة ، مع الشرود ، الداعي يدعو ولديه خواطر ؛ أشكال وألوان ، وفي الختام آمين ، فهذا ليس دعاء ، يجب أن تدعو وأنت شاهد لا وأنت غافل غائب ، بل شاهد ، حاضر ، خاشع ، متذلل ، متضرع ، فالله عندها يستجيب ، أما إذا كنت في شرود ، وفي تأمين شكلي أجوف ، فهذا الدعاء لا يستجاب ، ((فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)) .
* * * * *
ومن آداب الدعاء الواردة عنه صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يحب جوامع الدعاء ؛ يا رب زوجني فلانة بنت فلان ، يا رب المحضر الفلاني الخانة رقم كذا ، هذه ليست جوامع الدعاء ، يجب أن تدعو الله بجوامع الدعاء ؛ " ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً " ، هذا مِن جوامع الدعاء ، أكمل الدعاء دعاء القرآن ودعاء النبي ، فعلى الإنسان أنْ يحفظ أدعية القرآن كلها ، لأن فيها غطاءً لكل حالات الإنسان ، ويحفظ أدعية النبي صلى الله عليه وسلَّم ، لأنه أوتي جوامع الكلم .
كان عليه الصلاة والسلام يجمع في الدعاء ، ((اللهمَّ ارزقني طيباً ، واستعملني صالحاً " ، " اللهم أنا بك وإليك ، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب " ، " اللهمَّ إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم ، والفوز بالجنة والنجاة من النار)) ، اقرأ أدعية النبي، واحفظها، وحبَّذا لو حملتَ في جيبك كُتيبًا صغيرًا عن أدعية النبي ، اقرأها إلى أن تحفظها ، عندئذٍ ادعُ الله دائماً ، الدعاء مخ العبادة ، والدعاء هو العبادة ، والدعاء هو الصلاة الدائمة .
أيها الإخوة الكرام ؛ أمر على فقرات الدرس مروراً سريعاً ، رغبةً في تلخيصها ، من آداب النبي صلى الله عليه وسلَّم في دعائه أنه كان أولاً يرفع يديه حذاء منكبيه ، وكان صلى الله عليه وسلَّم يستقبل القبلة عند الدعاء ، وكان يختم الدعاء بمسح وجهه بيديه ، وكان يلحُّ في الدعاء ، وكان يفتتح دعاءه بالثناء على الله عزَّ وجل ، ويُثَنِّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وكان صلى الله عليه وسلَّم يعجبه الدعاء الجامع لا التفصيلي ، وكان ينهى عن الاستعجال بأن يقول العبد : دعوت فلم يستجب لي ، وكان عليه الصلاة والسلام يحب في الدعاء العزم والجزم ، فما كان يقول : اغفر لي إن شئت ، ارحمني إن شئت ، وكان يشير إلى التأمين في ختامِ الدعاء بأن تقول : آمين ، وكان يحبُّ أن يكون الدعاء بقلبٍ حاضرٍ خاشعٍ شاهد ، وكان عليه الصلاة والسلام يحب جوامع الدعاء .
هذه كلها آداب النبي صلى الله عليه وسلَّم في دعائه ربه ، والدعاء مرةً ثالثة مخُّ العبادة ، والدعاء هو العبادة ، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو يدعوه ، والدعاء سلاح المؤمن ، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله .