أصبح العنف الآن جزءا من ثقافة المجتمع، بل لقد ثبت أنه يحدث داخل الأسرة في المقام الأول وليس في الشارع أو في أي مؤسسة أخرى، وثبت أيضا أن الأطفال هم أكثر الفئات تعرضا لهذا العنف الأسري، حيث أصبحت وسائل الإعلام تطالعنا بصفة مستمرة بأحداث مسلسل العنف المتواصل والانتهاك البدني الصارخ الواقع من آباء وأمهات وأشقاء وأقارب على أطفال أبرياء لا ذنب لهم سوى أن صلة الدم والقرابة أوقعتهم في براثن نفوس مريضة ووحوش آدمية تمارس عليهم فنون التعذيب والقهر والاغتصاب والقتل.
هذه الحقيقة المؤسفة نبهت إليها نتائج دراسة بحثية متميزة أعدتها د.سماح خالد عبدالقوي زهران أستاذ علم النفس المساعد بقسم تربية الطفل بكلية البنات، جامعة عين شمس بعنوان «المسؤولية المجتمعية إزاء أشكال العنف ضد الأطفال»، وعرضت خلال فعاليات المؤتمر السنوي الحادي عشر للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي عقد اخيرًا، حيث ناقشت الدراسة أشكال العنف بوجه عام دون أن تخص فئة معينة بما في ذلك أطفال الأسر العادية، والمنتظمون بالدراسة، وأطفال المؤسسات، وأطفال الشوارع، وذلك في فترة العامين الماضيين تقريبا كما أجريت الدراسة على أطفال من الجنسين من 15عاما وحتى 18عاما)، وفيما يلي أهم نتائج هذه الدراسة
تبين أن القتل يتصدر جرائم العنف ضد الأطفال سواء كان ذلك عرضا، أو بسبب إهمال أو عن عمد، ويبدأ داخل الأسرة، ثم المدرسة أو خارجهما أو في الشارع، ثم يليه العنف بالضرب وشتى فنون التعذيب والحرق، بينما يأتي الاتجار بالأطفال في المرتبة الثالثة، وبعده الاعتداءات الجنسية والاغتصاب ثم الخطف، وأخيرا العنف الناتج عن الممارسات التقليدية وتتمثل هنا في صورة الختان للإناث إلا أن نسبته في انخفاض.
أما بخصوص مصدر العنف ومكان حدوثه فإن البيت هو المكان الأول لذلك لذلك، حتى إن العنف الأسري تصدر الآن وقوع العنف على الأطفال باستخدام جميع فنون التعذيب، حيث يشكل 76% تقريبا من مجموع الجرائم الكلية، وهي نسبة تقترب من نسبة دراسة سابقة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2008 أشارت إلى أن 78% من جرائم العنف ضد الأطفال سببها أسري.
وبالنسبة لأشكال العنف الواقع على الطفل داخل الأسرة فهي تبدأ بالقتل بالاعتداء الجسدي كالخنق والإلقاء من الشرفات والضرب بآلة حادة حتى الموت، والإلقاء في المصارف والترع والنيل، وتحت عجلات القطار، والحرق والكي، والطعن بالسكين، والطرد من المنزل.
كما بينت نتائج الدراسة أن الإناث هن أكثر تعرضا للعنف الأسري من الذكور.
واللافت للانتباه في نتائج هذه الدراسة أنه قد تبين أن فئات الجناة مرتكبي العنف ضد الأطفال المجني عليهم هم الآباء، والأمهات، وزوجات الأب، والأخوات، والإخوة، وأزواج الأم، ثم العشيق للزوجات.
استخدام العنف الأسري ضد الأطفال كانت مسبباته كما ذكرتها نتائج الدراسة أنه أسلوب تأديب للطفل بسبب التبول اللاإرادي، ورفض الطفل الذهاب إلى العمل، وإرضاء للزوجة الثانية، وإرضاء للزوج الجديد وكذلك قد يكون بسبب مرض الطفل أو يقع على طفل الخطيئة أو من أجل الانتقام لخلافات عائلية، أو بسبب المشكلات المادية والغيرة والرغبة في إنجاب ولد وكره البنات، والانتقام من الطفل لجريمة ارتكبها، والمرض النفسي وبيع الأطفال والإدمان والبطالة، والمشاجرات، وتقليد أحد الأفلام والاتجار في الأطفال، وطلب الفدية، واستخدام الأطفال في جرائم كالسرقة والدعارة والترويج للمخدرات، وأحيانا اسباب واهية مثل رفض الطفل تناول الطعام!
وبخصوص الانتهاكات الجنسية للبنات والأولاد التي تتمثل في الاغتصاب والاتجار، فالقائمون بالاعتداء والجناة هم من الذكور الأقارب كالأب، أو الأب بالتبني، أو زوج الأم، أو الخال.. وأسباب هذه الاعتداءات الإدمان والانتقام وأسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية وشخصية.
ظاهرة أخرى نبهت إليها د.سماح في دراستها هي ارتفاع نسبة العنف في كل من الأسرة والشارع والمدرسة أيضا، فالعنف يقع على جميع الأطفال سواء الطفل العادي داخل أسرته أو الطفل المنتظم بمدرسته الذي بدأ يتعرض أيضا لأشكال أخرى من العنف المدرسي متمثلة في العقاب البدني والاعتداء الجنسي، والتلوث الغذائي والإهمال بصوره المختلفة.. إلى جانب ما يتعرض له أيضا طفل الشارع من أصناف العنف المختلفة.
وقد يتساءل البعض: ما فئات هؤلاء الجناة القائمين بالعنف على الأطفال؟ وتجيب نتائج هذه الدراسة بأنه على الرغم من ظهور مهن عليا ومعدل عمري مرتفع في بعض شرائح مرتكبي الجرائم ضد الأطفال، فإن الحرفيين وأصحاب المهن الدنيا والعاطلين هم الغالبية، وحتى بالنسبة للنساء فإن معظمهن من ربات البيوت، والسبب في ذلك، كما تشير د.سماح، هو أن هذه الفئات من بيئات مولدة للعنف بطبيعتها، حيث الضوضاء والزيادة السكانية والعشوائية والتلوث، يضاف إلى هذا ضغوط الحياة وتناقضات العصر ووسائل الاتصال والدش وقنوات العنف، والإباحية التي وصلت للمقاهي، حيث العمال والعاطلون .. يضاف إلى ذلك عدم قدرة الفرد على تحمل كل هذه الضغوط، مع عدم وجود نواح مقبولة لتصريف الطاقة العدوانية. وهكذا تصبح هذه العناصر كلها سواء بالأسرة أو بالشارع مرتعًا للعنف، فتكون وبالا وخطرا على المجتمع، إذ يعتاد الجاني على جرائمه كوسيلة لإشباع حاجاته وتحقيق رغباته غير الممكنة.. وبدلا من أن يرى نفسه جانيا ظالما، يرى فيما ارتكبه الحق وكل الحق.
هذه النتائج المفزعة تتطلب تكاتف المجتمع كله لمواجهة هذه الظاهرة التي طرأت على نسيجه، فجعلت الآباء والأمهات وذوي الأرحام قتلة لأطفالهم.. هذا التكاتف يبدأ- كما جاء في توصيات الدراسة- بأن تعتبر الدولة قضية العنف ضد الأطفال- خاصة العنف الأسري- قضيتها الأولى فتهتم بها كل وزاراتها وتعدل في تشريعاتها لتجرم كل أشكال العنف ضد الأطفال، وأن يغلظ القضاء العقوبة نحو أي شكل من أشكال العنف أيا كان مصدره، وأن تتعاون الجمعيات الأهلية والقطاع الخاص مع الدولة لإيجاد فرص عمل مناسبة لحماية الأفراد من البطالة والحرمان، ومساعدتهم في تحقيق ذواتهم وإشباع حاجاتهم بطريقة سوية، كما يجب على الأطفال أنفسهم التبليغ عن جرائم العنف خاصة في الأسرة والشارع.
الضوضاء .. الزيادة السكانية .. التلوث .. تناقضات العصر.. قنوات العنف صانع الـــجــرائــم الأول